الانحراف الفكري أسبابه، مظاهره، آثاره السيِّئة، سبل معالجته، و واقع جمهورية مالي

من طرف Abdoul karim CISSE  |  نشر في :  الخميس, يوليو 21, 2016 0



بسم الله الرحمن الرحيم
الانحراف الفكري أسبابه، مظاهره، آثاره السيِّئة، سبل معالجته، و واقع جمهورية مالي
                       كتبه/ أ.د.هارون المهدي ميغا،  بماكو مالي،  رمضان 1437هـ/ يونيو  2016م
               الحمد لله وحده، الذي خلق الإنسان على أحسن صورة، ورزقه حسن التفكُّر، وصلى الله وسلم على من لا نبي بعده، محمد بن عبد الله وعلى آله وصحابته ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
            وبعد:
            فقد عُنِي  الإسلام عناية شديدة بالتفكير والتعقُّل، وبالدعوة إلى التفكير في الكون والإنسان وشؤون الحياة وتقلُّباتها؛ للاتعاظ والذكرى وترسيخ الإيمان، والقربة إلى الله، وللاستفادة في عمارة الأرض وتحقيق مصالح العباد والبلاد؛ بتحقيق حفظ الضرورات الخمس.
           والفكر والتدبُّر شرط لازم لا يمكن الاستغناء عنه للوصول إلى الحقيقة إذا أُحسنت الوسائل والأساليب.        
           والتفكير المستقيم ليس سهلا؛ لأنّه يستلزم عدَّة عناصر عقليَّة، وعلميَّة، وثقافيَّة، ونفسيَّة، وشخصيَّة، واجتماعيَّة...إلخ. كما يحتاج إلى وسائل وأساليب موضوعيَّة.
           إنَّ تغيير الأفكار والآراء والمواقف والاتجاهات من أهمّ الأسباب والوسائل إلى تغيير السلوك. وإنَّ الانحراف الديني أخطر أنواع الانحراف وأشكاله؛ لما يترتَّب عليه من ويلات؛ ولأنَّه –غالبا ما- يكون من نتاج الانحراف الفكري.
         الانحراف هو: الميل بالشيء عن وجهه الذي كان عليه إلى غيره. والفكر هو: إعمال العقل في الشيء، وترتيب أمور معلومة للتوصل إلى مجهول أو ترسيخ معلوم وتأكيده.
            فالانحراف الفكري في الاصطلاح هو: (( مَيْلُ الفكر ومخالفته لدين المجتمع، وما يؤمن به ، من قيم وأخلاق، وما تسود فيه من ثقافة، وما تحكمه من أنظمة وقوانين، وانحرافُه عن الوسطيَّة والاعتدال في الإسلام باتِّجاه التطرُّف سواء في التشدُّد أو التفريط ))([1]).
               وفي الانحراف الفكري:
             - مخالَفةٌ للمجتمع في عقيدته وقيمه وأخلاقه وثقافته ونظمه.
             - خروجٌ عن الوسطيَّة والاعتدال إمَّا بالتفريط أو الإفراط؛ فهو مخالف للإسلام الذي يدعو إلى الوسطيَّة في ضوء الكتاب والسنَّة والإجماع. ومخالِفٌ لمذهب أهل السنَّة والجماعة في تأويل النصوص ذات العلاقة بأصول الدين ومبادئه الأساس وبالقضايا الكبرى والمصيريَّة للمجتمع أو الأمَّة.
- ما يؤدِّي إلى أن ينعزل المنحرف فكريا عن المجتمع، وهو سبب مهمٌّ من أسباب تفكُّك المجتمع.
من أهمِّ مظاهر الانحراف الفكري:  الهزيمة النفسيَّة:  وهي: حالة تُسيطِر على النفس والعقل تُصيب صاحبَها باليأس من إمكان تغيير واقع سلبي إلى أفضل؛ بسبب مشكلات ومصايب تراكمت بدون حلٍّ؛ فيتَّخذ مواقف سيِّئة تُنتِج أضرارا كبيرة.  وذلك شأن المنحرف فكريا. 
الفوضويَّة في طلب العلم وفي التفكير:  تُستعمَل الفوضى في أوصاف سيِّئة يجمعها التفريط في كلِّ شيء مع الاعتقاد بالإحسان فيه. والفوضويَّة في طلب العلم من مظاهر الانحراف الفكري؛ فتجد الشخص يحصُر نفسه في كتبِ أشخاص معيَّنين أو يقرأ كلَّ ما يقع في يده وهو لا يمتلك مقدرة علميَّة، ولا وعيا وفهما؛ لتمييز صحيحِ الرأي من خطئه،  يَهضِم النصوص بلا فهم صحيح، ويتمسَّك بأقوال متعالمين يتَّفقون معه في المنهج. والفوضويَّة في التفكير: مظهر-أيضا- من مظاهر الانحراف الفكري، يتَّصف صاحبها بسرعة تغيير الأحكام والمواقف؛ اتِّباعا للهوى. يَتحمَّس لأسلوبٍ ومنهج ثمَّ ينقلب عليه. يتنقَّل بين القضايا المصيريَّة للمجتمع أو الأمَّة فلا يُوفِّيها حقَّها من الفهم والبيان والإيضاح بل يَقلِبُها رأسا على عقب. سوءُ التعامُل مع المعلومات غير الملائمة وإصدار الأحكام المُسْبَقة: يظهر الانحرافُ الفكري على صاحبه من هذه الناحية؛ حيث يسيئ التعامل مع معلومات غير ملائمة، يقبلها دون تدقيق وتمحيص، ويصدر أحكاما مسبَقة سيِّئة وظالمة على الأفراد، أو الشعوب، من غير قراءة صحيحة واعية للأدلَّة والنصوص والأسباب الحقيقيَّة، ومن غير أن يستقصي الوسائل والأساليب. فإذا ما اصطدم بمعلومات أخرى صحيحة وسليمة تُناقِض تلك التي بنى عليها وقع في حيصَ بيْصَ، وسدَّ على نفسه أبواب الحق، واخْتلَقَ المخارجَ، وفسَّر الظواهر تفسيرا خاطئا.
  ومِن مظاهر الانحراف الفكري أنَّ صاحبَه يَستشْعر –دائما- كمالَه في التديُّن والالتزام، وفي الاهتمام لأمور المسلمين أفرادا وشعوبا، مع الاستخفاف بالآخر فردا أو مجتمعا ؛ فيُنزِّل نفسه منزلة المُخلِّص الوحيد للشعب أو للأمَّة. ويلجأ إلى العنف قولا وعملا. 
والمبالغةُ والتضخيم: تقوم المبالغة على بنية فكريَّة ونفسيَّة أساسُها قصورُ الإدراك، والهوى، الاستخفاف بعقليَّة الآخر، سواء كانت بالمدح أو القدح؛ يُضخِّم الأمور والأحداث السيِّئة، ويُظهرها وكأنَّها كوارث لا تبقي ولا تذر. و يقلِّل في الوقت نفسه من قيمة الأمور الإيجابية، ومن التفاؤل بالخير.
              أمَّا أسباب الانحراف الفكري:  فمنها أسباب داخليَّة أي داخل مجتمعاتنا، وأسباب خارجيَّة.
                من الأسباب الداخليَّة: أسباب علميَّة: مُخالفةُ منهجِ السلف في التلقِّي والاستدلال وفي التعامل مع النصوص الصحيحة الثابتة؛ بسوء تأويلها، أو رَدِّها لمخالفتها لهواه، وجرأة الاعتراض عليها.       
 وقلَّةُ البضاعة في فقه الأولويَّات؛ يُصاب بالضَّبابيَّة في الرؤية والفهم، ويُقدِّم المُهِمَّ على الأهمِّ، والمندوبَ على الواجب، والقابلَ للتأخير على الواجب تقديمُه، ثمَّ يسعى في إلزام غيره بموقفه وفهمه...إلخ.    
                أسباب نفسيَّة: غلبةُ الحيرة واليأس والإحباط وكراهيَّةِ المجتمع أو الدولة، واستشعار انغلاق أبواب التغيير في وجهه؛ فيفقد الأمل في مستقبل مضيء. وهناك أسباب تربويَّة:  كتغييب العلوم الشرعيَّة والتربية الدينيَّة أو تهميشها، أو إظهارها في صورة موادّ لا تقدِّم ولا تؤخِّر، واستنساخ النهج العلماني الغربي الذي يُراد له إحلال القيم الخاصَّة بالثقافة الغربيَّة محلَّ قيمنا الإسلاميَّة في التعليم، والثقافة، والتربية، وحتى في السلوك. وأسباب اجتماعيَّة: تتعلَّق بالأسرة، وبالبيئة الخارجيَّة (المجتمع). الأسرة تُمثِّل الوحدةَ، والتوافق، والتضامن، وأيُّ خَلَل فيها يكون له تأثيره على أفرادها. أمَّا ما يتعلَّق بالبيئة الخارجيَّة (المجتمع) فتجد الفسادَ الخلقي والعقدي، وغيابَ الوعي الاجتماعي بعواقب الانحراف الفكري السيِّئة. والتعامُلَ غير المنضبط بالشرع في معالجة المنحرف فكريا. وأسباب دينيَّة: ضعف الوازع والنازع الدينيَّين، والجهل بالعقيدة والتشريع الإسلامي ومقاصدهما. أمَّا الأسباب الخارجيَّة فمنها: الغزو الفكري، و الانفتاحُ الإعلامي غير المنضبط.
من آثاره:   إذا انحرف الفكر بمخالفة عقيدة المجتمع، ومناقضة ثوابت الأمَّة ظهر الفساد. وإذا تمكَّن من تحقيق أهدافه كان له تأثير مدمِّر، وأحدث آثارا خطيرة لا تقتصر أضرارها على الفرد المنحرف، ولا على الجماعة المنحرفة فكريًّا –فحسب- بل تنتشر نيرانه إلى الأسرة، والمجتمع، والأمَّة ؛ لأنَّ الفكر المنحرف يستهدف كلَّ أولئك في صميم روحه، وأخلاقه، وثوابته العقديَّة والاجتماعيَّة([2]).
من أهمِّ آثار الانحراف الفكري:
آثار عقديَّة ودينيَّة: كزعزعة الوسطيَّة والاعتدال في الدين؛ باستهداف الثوابت العقديَّة، والقيم والأخلاق الحميدة. و تشويه صورة الإسلام الناصعة وقيمه النبيلة، والتنفير منه، والتشكيك في ثوابت الأمَّة، وإثارة الشبهات. وإخراج النصوص الشرعيَّة عن سياقاتها، واتِّباع المشبهات والإعراض عن المحكمات. وعدمُ الموازنة بين المصالح والمفاسد. وتحريف المفاهيم والمعتقدات، وتسهيل انتشار الابتداع.
            آثار اجتماعيَّة: كالقيام بنشاطات تؤدِّي إلى تهديد الضرورات الخمس التي أمر الله بالمحافظة عليها؛ وذلك بسفك الدماء، وانتهاك الأعراض، وتضييع الأموال، وتعطيل مصالح العباد والبلاد. وإثارة الفتن والتضليل والتغرير بالشَّباب، وانتهاك حقوق الآخرين بالاعتداء على ممتلكاتهم، أو ذواتهم، أو على مقتقداتهم([3]).
                     من عوامل انتشار الانحراف الفكري: جهاتٌ تقف وراءه، كالمرجئة والمعتزلة، والخوارج، والشيعة، وغلاة الصوفية، وغلاة من السنَّة. ومن العوامل: ارتباطُ الانحراف الفكري بزعزعةِ أمن المجتمعات، وزعزعةِ القناعات الفكريَّة، والثوابت العقديَّة، والمقوِّمات الأخلاقيَّة والاجتماعيَّة؛ فتنتشر الفتن، وتتعطَّلُ المصالح العامَّة والخاصَّة، وينتشر المفاسد والجريمة. ومن عوامل انتشاره: ضعفُ التحصين الشرعي؛ بسبب غلبَةِ أنواع من الجهل على المنحرفين فكريًّا، كالجهل بالحكم الشرعي، والجهل بدلالات النصوص ومقاصد الشريعة، والجهل بأسلوب تنزيل الحكم على الواقع، والجهل بانقسام الناس إلى مؤمن، ومنافق، وكافر، وسوء تنزيلهم لهذا التقسيم على الواقع. والجهل بعقيدة أهل السنَّة والجماعة وبمنهجهم في التلقي والاستدلال وفي التعامل مع النصوص...إلخ. ومن ضعف التحصين الشرعي: وعدمُ القدرة على الموازنة بين الأدلَّة والنصوص حتى لا يُضرَب بعضُها ببعض، و لا القدرة على تمييز الوسطيَّة والاعتدال من الانحراف، والغلوّ والإرهاب. ومن عوامل انتشاره –أيضا- الفساد والظلم السياسي والاجتماعي.
           لمعالجة الانحراف الفكري:
              لا بدَّ من الانطلاق في المعالجة من الكتاب والسنَّة والإجماع، وأقوال العلماء الراسخين الأتقياء، وسدّ الذرائع، وتحقيق المصالح أو تكميلها ودرء المفاسد أو تقليلها ، وما يؤيِّده العقل السليم الواعي للأحوال والظروف المعاصرة.
              وعلى مَن يتصدَّى للمعالجة أن يقدِّر الانحراف الفكري بقدره بلا تفريط ولا إفراط أي بلا تهوين ولا تهويل، وأن يتحلَّى بقدر كبير من الإخلاص في القول والعمل، والعلم، والوسطيَّة والعدل، وفهم المقاصد الشرعيَّة، وفقه الواقع الداخليّ والخارجيّ، والقدرة على فهم الانحرافات وأسبابها، ومظاهرها، وعلى ردِّ الشبهات؛ فكثيرا ممَّن يواجههم ذوي قدرة على المجادلة....إلخ([4]). 
                وأمَّا المعالجة العمليَّة للانحراف الفكري فمِن أهمِّ أنواعها: الحماية؛ فالوقاية خير من العلاج، وتسعى الحماية لتحقيق ثلاثة أهداف أساس، أوَّلُها: إعدادُ الإنسان السويِّ الذي يَتجنَّب سلوك الجريمة. الثاني: تَحصينُ الشَّباب من الفكر المنحرف قبل انتشاره. والآخِرُ: تطهيرُ المجتمع من الانحراف الفكري وما ينتج عنه. ومن المعالجة العمليَّة: حُسنُ الالتزام بالعبادات؛ إذ يربِّي روحَ الإنسان، وعقلَه، وجسمه، تربيةً متكاملةً شاملة لجميع جوانب الإنسان. ويقوِّي الإيمان، ويُحَقِّق الأمن النفسي والفكري، والتحرُّر من العبوديَّة لغير الله تعالى..ومن أنواع المعالجة العمليَّة: نظامُ العقوبات الشرعيَّة؛ فهي مقرَّرة لإصلاح الفرد ولحماية الجماعة، إضافة إلى الوقاية من الجريمة.
                اللهم احفظنا من الانحراف الفكري، واحفظ المجتمعات الإسلامية من المنحرفين فكريا وأضرارهم.
           أمَّا من حيث واقعُ  الانحراف الفكري في مالي يجب تقسيم هذا الواقع إلى عهدين: الأوَّل ما قبل أحداث عام 2012م، والآخِر ما بعده. في الأوَّل نجد - منذ الخمسينيَّات من القرن العشرين الميلادي- بوادر وجود الانحراف الفكري في مجمتع مالي؛ بحوادث مؤسفة جدًّا وقعت على أهل السنَّة، وصلت في بماكو  عام 1957م إلى إحراق بعض مساجدهم وممتلكاتهم، وإغلاق بعض مدارسهم، ومنعهم من بناء مساجد خاصَّة بهم. وفي منتصف السبعينيَّات من القرن العشرين الميلادي ظهر في شرق مالي حركة الخوارج باسم الجمعيّة الإسلاميّة: (جمعيّة أنصار السنّة)،سيأتي الحديث عنها. ومن تسعينيَّات القرن الميلادي الماضي ظهر عند بعض الجماعات أفكارٌ منحرفة كتحريم الالتحاق بالوظائف الحكوميَّة، بل مطالبةُ مَن فيها بتركها؛ ليبتعدوا عن الحرام. وظهر –أيضا- خطابٌ دينيٌّ مُتشدِّدٌ يَتساهَلُ كثيرا في تكفير المسلم بالذنوب حتى بعض التي ليست من الكبائر. وفي مقابله خطابٌ علمانيٌّ مُتَشدِّدٌ في الهجوم على الإسلام وتعاليمه تناغُما مع ما يجري في الدول الغربيَّة منذ أحداث 11 سبتمبر 2001م. كما ثبَّتت الحركاتُ الجهاديَّة أقدامَها في صحراء مالي، وهي تقوم بالاستقطاب والتدريب، والشحن بالأفكار والمعتقدات المنحرفة.
                  وبسيطرة الحركات المسلَّحة عام 2012م على مدن شمال مالي شهد البلدُ واقعا مريرا من الانحراف الفكريّ الخطير، من مظاهره:  تكفيرُ المجتمع الإسلامي في مالي. استباحةُ دماء المسلمين وحمل السلاح لتطبيق الشريعة وإقامة إمارة إسلاميَّة مهما يكن ما يترتَّب عليه من أضرار ؛ فالغاية تُسوِّغ الوسيلة. غلبةُ  الجهل بالعلم الشرعي وبمقاصد الشريعة، وبشروط الجهاد الشرعيّ وضوابطه، وبفقه الواقع، مع عجز شديد عن الموازنة بين المصالح والمفاسد.
             كان من الآثار الدينيَّة والاجتماعيَّة لِما قامت به الحركات المسلَّحة في شمال مالي:  انتشارُ الاقتناع بأفكار حركات العنف المسلَّحة. عودةُ الحرب على المدارس القرآنية.  تأليبُ غلاة المتصوِّفة للحكومة على أهل السنَّة، واقتراحُ أنفسهم كبديل إسلامي مسالم، ملتزمٍ بإسلام الآباء، بعيدٍ عن الإسلام المستورد من الخارج الذي ينزع إلى العنف والقتل والتدمير.  سوء استغلال بعض الأحداث للتطرُّف في محاربة الدين جَهارا نَهارًا كالدعوة إلى منع الحجاب الشرعي بحجَّة أنَّ جماعة بوكو حرام تستغلُّ فتيات متحجِّبات للقيام بالتفجيرات. ومحاربةُ التعليم الإسلامي العربي السنِّيّ في الداخل والخارج؛ باقتراح بديل عنه يسمَّونه تعليم الإسلام التقليدي الموروث عن الآباء، وضرورة إنشاء جامعة وطنيَّة للدراسات الإسلاميَّة تتولَّى تعليم أبناء مالي؛ للحيلولة دون هجرتهم إلى المشرق، حيث يدرسون المناهج السلفيَّة المتطرِّفة ثمَّ يعودون بدين جديد.
              تمثَّلت نماذج الانحراف الفكري في مالي  في جماعات لديهم انحرافاتٌ فكريَّة.
              أوَّلا:  غلاة ينتسبون إلى السُّنَّة، كجمعيَّة أنصار السنّة (الخوارج) غالبيَّتُها من سنغاي. وقد ظهرت منتصف السبعينيّات من القرن الميلادي الماضي في مدينة غاو. تكفِّر من لا ينتمي إليها، ولا تزاوجهم، ولا تأكل ذبائحهم، ولا تصلّي خلفهم أوفي مساجدهم؛ إذ تعدّهم مشركين أو مرتدّين. كما أوجبت الهجرة إلى مراكزها في تَجمُّعاتٍ خاصة.  ولمَّا سيطرتْ الحركات الجهاديَّة المنحرفة على شمال مالي عام 2012م كان أعضاؤها أوائل منْ انضمَّ إليهم؛ إذ رأوا فيهم تحقيقا لمساعيهم منذ عشرات السنين.
              ثانيا: غلاة الصوفية، وبخاصَّة التيجانيّة، وجماعة أنصار الدين الدوليَّة التي أضافت إلى اسمها كلمة " الدوليَّة" لتمييز نفسها عن حركة أنصار الدين الطارقيَّة الجهاديَّة التي ظهرت في شمال مالي مع أحداث عام 2012م. لم تألُ  هذه الحركات جهدا في إبراز نفسها في صورة مَن يمثّلون الإسلام الحقيقي إسلام التسامح، إسلامَ الآباء الذي مبناه التيسير والمحبَّة والسلام. مقابل إسلام جديد مستورد من الشرق، يعتمد التشدُّدَ والتكفير، والعنف. ومحاولاتها الكثيرة لتأليب الإدارات الحكوميَّة على السنَّة وعلى القيادات السنِّيَّة البارزة وعلى مساجدهم. إضافة إلى عودة ظهور مصطلح " الوهابي" إلى الساحة بعد أن كاد يختفي فيها  باستعمال مصطلح " أهل السنَّة".  
          ثالثا: التمدُّد الشيعي:  من حيث الوجود التاريخي فإنَّ هذه الفرقة غريبة على البيئة الإسلاميّة في غرب أفريقيا وعلى جمهوريّة مالي، ولم يكن التشيُّعُ -عقيدةً- معروفا لدى النّاس في مالي لا قديما ولا حديثا إلى أن ظهرت الثورة الخمينيَّة في إيران؛ فَأدَّتْ إلى انتباهِ كثير من مسلمي مالي إلى الشيعة. ولَعلّ أوَّلَ اتصال في العصر الحديث للتشيُّع ببعض طوائف مالي كان عن طريق القنوات الدبلوماسيّة وافتتاح السفارة الإيرانيّة فيها و المراكز الثقافية التابعة لها، ثمَّ أخذ يتمدَّد ويقوِّي علاقاته بالطوائف الصوفيَّة؛ إذ يجمعها إقامةُ المزارات وتقديسها، والإفراط في تقديس الشخصيات، والتغنِّي بحبّ الرسول صلى الله عليه وسلم وبحبّ آل البيت، والمظاهر الاحتفالية الصاخبة....إلخ.  وفي الآونة الأخيرة  يظهر بجلاء – في مالي وبخاصَّة بماكو - قوَّةُ الصلة والتعاون بين الصوفية والشيعة في:  تنظيم الندوات والمحاضرات العامَّة المشتركة، وبخاصَّة ما ينظِّمها جماعة أنصار الدين الدوليَّة. واستعمال قيادات الشيعة المكثَّف لقناة " الشريفيَّةCHERIFELLA   " الفضائية التي تملكها هذه الجماعة.  والعداوة المشتركة – على تفاوت- لأهل السنَّة.
              رابعا:  الحركاتُ المنحرِفة المسلَّحة التي تسمِّي نفسها بالجهاديَّة والتي سيطرت على شمال مالي منذ عام 2012م. من هذه الحركات: القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي، معظم قياداتها وأعضائها من الجزائر، وموريتانيا، والصحراء الغربية، وتونس، وليبيا. حركة أنصار الدين: قائدها الطارقي إياد أغ غالي، كان عضوا في جماعة التبليغ،  ولم يسبق له في كل التمرُّدات التي شارك فيها مطلب إسلامي واحد. عُيِّن قنصلا عامًّا لمالي في جدَّة ، ولبس لبوس السلفيَّة قبل أن تطرده السلطات السعوديَّة؛ فعاد إلى مالي وأسَّس الحركة. أغلبُ أعضائها من طوارق مالي وبخاصَّة الإيفوغاس الذين وجدوا فيها حركة شعبيَّة سلفيَّة جهاديَّة. حركة التوحيد والجهاد بغرب أفريقيا:  (MUJAO)، مُعظمُ عناصرها من عرب موريتانيا،  والجزائر ، والصحراء الغربية المقيمين في الجزائر، وأفراد من عرب مالي. و يرى بعض الباحثين أنَّ هذه الحركة إنَّما هي النسخة العربيَّة لحركة أنصار الدين الطارقيَّة. الأولى حركة جهاديَّة سلفيَّة عربيَّة، والأخرى حركة جهاديَّة سلفيَّة طارقيَّة. ثمَّ تمكَّنوا من استقطاب بعض المجموعات الإفريقيَّة.  وفي يوليو 2014م أعلنت ولاءها لــ" داعش".  جبهة تحرير ماسينا: غالبيَّة أعضائها من الفلانيين الذين كانوا يُقاتِلون في شمال مالي، عُرِفت مجموعتهم بـــ" كتيبة ماسينا".  أعلنت عن تأسيسها في أبريل 2015م بقيادة  أحمد كُفَّ، نسبة، وهو على علاقة وثيقة بالقاعدة وحركة أنصار الدين، ودعت للانضمام  إلى حركة بوكو حرام. حركة أنصار الدين- الجنوب: أعلنت عن نفسها في عام 2015م، غالبيَّة أعضائها من سكَّان جنوب مالي وبخاصَّة الماندنغ/البمباره، أعضاؤها ممََن قاتلوا في أنصار الدين شمال مالي وكانت مجموعتهم تُعرَف  بــ"كتيبة خالد بن الوليد". تنشط على حدود مالي وساحل العاج  وغينينا كوناكري.
             انطلقتْ كلُّ هذه الحركات وغيرها من الانحراف الفكري، واتفقَّت في الأهداف، والوسائل، واستراتيجيَّتها. فهي تكفِّر المجتمعات، وتهدف إلى تطبيق الشريعة وإقامة إمارة إسلاميَّة، ومقاومة الوجود الغربي في المنطقة. ثمَّ اتَّخذت السلاح والعنف، والتخريب، والتدمير، والتفجير، وانتهاك الأعراض، وزهق الأرواح البريئة، واختطاف الأجانب، وسيلتها الفضلى لتحقيق أهدافها، يدفعهم جهل مطبق بالشريعة ومقاصدها، وبفقه الواقع والأولويات، مع ردّ النصوص الثابتة إذا لم توافق أهواءهم وفكرهم المنحرف. وأغلب مَن تضرَّر  بأعمالهم الشنيعة -حسيًّا ومعنويًّا – هم المسلمون.
                 وتسعى جبهة تحرير ماسينا في إحياء قوميَّة فولانيَّة إسلاميَّة تنهَج منهج الدولة الإسلاميَّة الفولانيَّة (دولة دِينا) التي أقامها أحمد لبُّو، في القرن التاسع عشر الميلادي( 1818- 1862م)، تنفصل عن بماكو، تُطبِّق الشريعة الإسلاميَّة في مناطقها وتمنع القوانين الوضعيَّة.  
                     بعد كل ما تقدَّم  يرد سؤال جدّ مهمّ وهو: هل من جهود بذلها العلماء والدعاة في مواجهة الانحراف الفكري في بلد الباحث؟ وأين كاتب هذه السطور في المواجهة؟
                   الجواب عن السؤال الأول: نعم، لقد بذل العلماء والدعاة – ولا يزالون يبذلون - جهودا كبيرة في التصدّي للانحراف الفكري ومظاهره، وجمعيَّاته وحركاته؛ بنقض أفكارها ومعتقداتها، والتحذير منها، وبيان خطورتها على الأفراد والمجتمع، وعلى الأمن والاستقرار،  مستعملين كلَّ الوسائل المتاحة لهم كإلقاء المواعظ والخطب في المساجد والإذاعات، وتنظيم الندوات والملتقيات العلميَّة، وكتابة البحوث العلميَّة، وإصدار البيانات. ومن نماذج تلك الجهود:  
                   أوَّلا: ما جاء في مراسلة الخوارج: الجمعيَّة الإسلاميَّة (جمعيَّة أنصار السنَّة)، فقد تصدَّى للردّ عليهم علماء منطقة غاو  في الداخل والخارج. ولمَّا استفحل أمرُهم وبلغ إلى سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز (ت 1420هـ)- رحمه الله-  أرسل عام 1403هـ وفدًا ومعه رسالة إلى رئيسها للإصلاح والنصح والإرشاد، والأخذ بيدها إلى توحيد كلمة المسلمين والدعاة، وسدِّ الأبواب التي قد تُؤتَى الدعوةُ من قِبَلها بسبب هذه الجمعيَّة ونحوها، وأفكارها المنحرفة، وكيف أنَّها – بتصرُّفاتها- ستكون من معوِّقات نشر الدعوة الإسلاميَّة، والأمن والاستقرار في بلاد المسلمين.
                ثانيا: الملتقى الدعوي العلميّ:  (الداعية في مواجهة التحدِّيات الفكريَّة والعقديَّة )  بماكو 26/7-1/8/ 1432هـ 1-3/7/2011م. تنظيم رابطة الدعاة في مالي وكليَّة طوبى للدراسات الإسلاميَّة برعاية لجنة الدعوة في أفريقيا. شارك فيها (60) داعية من جميع مناطق مالي. وقدِّمت (23) ورقة عمل في موضوعات مختلفة وبخاصَّة ما يتعلَّق بالشيعة وعقائدها المنحرفة وخطرها على أمن المجتمع وسلامة الوطن.
                 ثالثا: الدراسة العلميَّة للمجلس الإسلامي الأعلى: (حمل السلاح لتطبيق الشريعة في العصر الحديث، ما وقع في مالي نموذجا) رمضان 1433هـ يوليو 2012م. شارك في اللجنة العلميَّة المكلَّفة بإعدادها ما لا يقلّ عن عشرين عالما وداعية من مختلف التخصُّصات وحاملي الشهادات العليا والطوائف، ثمَّ تمَّ إقرارها  في بماكو  23 سبمتبر 2012م. كان الهدف من هذه الدراسة أن تكون مُنطَلَقا لمحاورة الحركات المسلَّحة المسيطرة على شمال مالي في لقاء للتفاوض يوم 10/1/2013م. ممَّا تقرَّر في هذه الدراسة العلمية : أنَّ حمل طائفة من الماليين ومَنْ معهم من غير الماليين ، للسلاح باسم الجهاد ، لا يُعَدُّ -لا نقلا ولا عقلا- من الجهاد الذي نادى به الإسلام ، بل هو محاربةٌ لله ورسوله وفسادٌ في الأرض، ترتَّب عليهما مفاسد جسيمة. وأنَّ ما ارتكبوه – ولا يزالون يرتكبونه - باسم تطبيق الشريعة ، لا يُعَدُّ -أيضا- من تطبيق الشريعة على الوجه الذي نادى به الإسلام؛ لأنَّ حمل السلاح على المسلمين من المحظورات الشرعية المعلومة من الدين بالضرورة، ولأنّه لا يتوفَّر في حملهم شروطُ تطبيق الشريعة، ولا ضوابطه، ولا وسائله، بل هو انتهاكٌ لأعراض المسلمين، وسفكٌ لدمائهم، وفيه تشويهٌ لصورة الإسلام والمسلمين، وتنزيلٌ للنصوص في غير منازلها، وإضاعةٌ لمكاسب عظيمة وقوَّة معنويَّة جَنَتْها الجمعيّات الإسلاميّة في مالي على جميع المستويات.  وتطبيقُ الشريعة الإسلامية نظاما للحياة مبدأٌ مجمع عليه إلا أنه بحاجة إلى تهيئة الظروف، والوسائل، وتحقيق مجموعة من الشروط والضوابط.
                  رابعا: بيان اتحاد علماء أفريقيا حول اندلاع الحرب في مالي، رقم 6، بتاريخ 7/3/1434هـ 19/1/2013م. ممَّا جاء فيه: بناءً على الضوابط الشرعيَّة والحقائق الميدانيَّة يرى الاتحاد أنَّه لا يصح وصف ما قامت به هذه الجماعات المسلَّحة من هجوم بالجهاد في سبيل الله، وأنَّ ما ترتَّب على أفعالهم من المفاسد أعظم من المصالح المتوقَّعة.  يستنكر الاتحاد الأعمالَ المخالفة لمبادئ الإسلام من الاعتداء على المدنيين أو دُور العبادة خلال الأعمال الحربيَّة، وخطف الرهائن على اختلاف جنسيَّاتهم وأديانهم، والعمليَّات التفجيريَّة التي يروح ضحيَّتها الأبرياء. يؤكِّد الاتحاد أهميَّة التوعية والتثقيف لترسيخ مبدإ الوسطيَّة ومعالجة مشكلة الغلوّ في الدين، ويطالب الهيئات العلميَّة وغيرها بالقيام بمسؤوليَّاتها في ذلك.
               خامسا: الدورة الشرعيَّة: (منهج الخوارج: عار ودمار) تنظيم دعــاة وزارة الشؤون الإسلاميَّة والأوقاف في الرياض بمقرّ رابطة الدعاة في مالي، بماكو، 20-22/10/1435هـ 17-19/8/2014 م، قدَّم فيها (18) داعية أوراقا. منها: التعريف بالخوارج وبيان صفاتهم وعلاماتهم ، وشبههم والردّ عليها،  وحركة الشبَّاب نموذجا، ومَن له إعلان الجهاد( تنظيم الدولة الإسلاميَّة نموذجا)، وحكم عمليَّات الخطف والاغتيال: جماعة بوكو حرام نموذجا)، ومنهج السعوديَّة الوسطي: فتاوى علماء السعودية المعاصرين: عهد الملك فهد والملك عبد الله)، وحكم الأعمال الانتحاريَّة،  والإباضيَّة....إلخ. 
                سادسا: دورة الآل عام 2015م:  (دورة الدعاة والأئمة والخطباء في مالي: معا لأجل الآل والأصحاب) تنظيم رابطة الدعاة في مالي، 1-5/6/1436هـ 21-25/3/2015م. قدِّمت فيها بحوث كثيرة تناولت الشيعة من جوانب مختلفة. 
                سابعا: ظاهرة الغلوّ في الدين: الأسباب والعلاج: تنظيم اتّحاد علماء أفريقيا. وضع الاتِّحاد خطَّةً لمواجهة هذه الظاهرة في كلِّ دول الاتحاد فأُقيمت ندوات التحصين في عدد من الدول (13) دولة. في هذا الإطار نظَّم مكتب الأمانة العامَّة في مالي بالتعاون  مع المجلس الإسلامي الأعلى ندوة (ظاهرة الغلّو في الدين، الأسباب والعلاج). وذلك يوم السبت 13/6/2015م. تناولت الأوراق: التعريف بالغلوّ وأسبابه ومظاهره، مخاطره وآثاره والتحذير منه، والعلاج وطرق التحصين.
               وأمَّا يخصُّ تجاربَ من جهود الباحث في مواجهة الانحراف الفكري في مالي: فقد شارك كاتب هذه السطور بتقديم بعض الأوراق البحثيَّة في ملتقيات وندوات علميَّة أو بدافع شخصي وتنزيلها على الشبكة العنكبوتيَّــة، منها:   أوّلا: من وسائل مواجهة المدّ الشيعي في أفريقيا. ورقة مُقدَّمة إلى الملتقى الدعوي: " الداعية في مواجهة التحدّيات الفكرية والعقدية " المنعقد في بماكو من 30/7 إلى 2/8/1432هـ 1-3/7/2011م. تنظيم رابطة الدعاة في مالي وكلية طوبى للدراسات الإسلامية. إعداد/ الدكتور هارون المهدي ميغا.  من أهمِّ وسائل مواجهة المدّ الشيعي في أفريقيا: الوسائل العلميّة، والإعلاميّة، والاجتماعيّة، والاقتصاديّة.      
                ثانيا: هل من تطبيق الشريعة ما قامت به الحركات المسلَّحة في شمال مالي؟ د.هارون ميغا، بماكو 08/01/2013م. منشور على الشبكة العنكبوتية، وعلى مدوَّنة " مجلس علماء وكتَّاب شمال مالي".  فيه: أنَّ مِن المُسلَّمات عند كلّ مسلم حقيقي أنّ شريعة الإسلام صالحة لكلّ زمان ومكان، وتُطبَّق بالشروط والضوابط التي استنبطها العلماء من النصوص الشرعيّة وفصَّلوا القول فيها. وأنَّ ما جرى في مدن شمال مالي ممَّا يُسمَّى (تطبيق الشريعة) لا علاقة له –لا من قريب ولا من بعيد- بالتطبيق الحَقِّ للشريعة وإنْ سمَّوه كذلك؛  لأنَّه يفتقد تلك الشروط والضوابط الأساس؛ وحصر الشريعة الشاملة لكلّ شؤون الحياة حَصرَهَا في بعض الحدود الجنائيَّة وبعض المظاهر؛ ولأنَّه بالموازنة بين ما جَرى في مدينتَـيْ غاو  و تنبكتو  و بين ما جَرى في مدينة كيدال، يظهر الاستهزاءُ بالشريعة، والتمييزُ  والتمييعُ في تطبيقها بمدن شمال مالي على أيدي المسلَّحين. أمَّا تطبيق الشريعة بِهدم المزارات في مدينة تنبكتو  فقد كان هدمُها أشدَّ ضررا على الإسلام والمسلمين: أ- أنَّ هدمَها أدَّى إلى اعتبارها تراثا عالميا، ومعنى ذلك إعادة بنائها، والعناية بها والمحافظة والإنفاق عليها بشكل أكبر وأوسع ممَّا كانت عليه قبل الهدم. ومن القواعد الإسلاميَّة المشهورة "الأخذ بأخفِّ الضَّرَرين" و "دَرْء المفاسد مُقَدَّم على جَلبِ المصالح"  و "الضَّرَر لا يُزال بِضرَرٍ أشدَّ منه". ب- إضعاف جانب دعاة أهل السنَّة والجماعة الذين يدعون إلى تغيير الجانب السيئ من زيارتها بالحكمة والموعظة الحسنة؛ بتصويرهم في صورة برابرة ضدَّ كلِّ ما هو إنسانيّ وبأنَّهم وَهَّابيون دعاة إلى دين دخيل على أفريقيا. والمسلم العاقل الواعي-كما يقول ابن تيمية رحمه الله- ليس مَن يعرف الخيرين والشَّرَّين، وإنَّما هو مَن يعرفُ خيرَ الخَيرين وشرَّ الشَّرَّين.
                     ثالثا: مَن له إعلان الجهاد: تنظيم الدولة الإسلاميَّة نموذجا. بحث مقدَّم إلى الدَّورة الشَّرعيَّة: (منهج الخوارج: عار ودمار ) إعداد/د.هارون المهدي ميغا. تنظيم دعاة وزارة الشؤون الإسلامية بالرياض، بماكو 20-22/10/1435هـ، 17-19/8/2014م. تناولت هذه الدورة العلميَّة الشرعيَّة قضيَّة حمل حركات جهاديَّة للسلاح في وجوه إخوانهم المسلمين؛ بحُجَج كثيرة، وأهداف مختلفة، مبناها انحراف فكري.
                 رابعا: نماذج من دور قيادات دينيَّة إسلاميَّة خارجيَّة في الأمن والاستقرار بمالي: قديما وحديثا. بحث مقدَّم إلى الدورة التأهيليَّة: (دور القيادات الدينيَّة في تعزيز السِّلم والمصالحة الوطنيَّة في مالي )، التي نظَّمتها رابطة العالم الإسلامي بالتعاون مع مكتب هيئة الإغاثة العالميِّة، في بماكو مالي بتاريخ 23-26/8/2014م.(منشور على الشبكة العنبكوتيَّة، ومدوَّنة "مجلس علماء وكتَّاب شمال مالي" ). إنَّ الأحداث الفظيعة التي وقعت في مالي عام 2012م بسيطرة الحركات الانفصاليَّة والجهاديَّة المسلَّحة على مدن شمال مالي، وما تبع ذلك من طردهم عام 2013م، فتحت هذه الأحداثُ الأبوابَ على مصارعها لقيادات دينيَّة إسلاميَّة، وهيئات إسلاميَّة ذات صفة عالَميَّة، وباحثين وعلماء، وكتَّاب وصحفيِّين، وسياسيِّين في مناطق مختلفة من العالم العربي، وفي وسائل الإعلام المتعدِّدة ( إذاعات، صحف ومجلاَّت، قنوات فضائيَّة، مواقع على الشبكة العنكبوتيَّة) ؛ لإصدار أحكام جائرة أدناها تتهم المسلمين الأفارقة في مالي و المجموعة الاقتصاديَّة لدول غرب أفريقيا، وتشاد، بالتعاون مع الكفَّار وأعداء الإسلام(فرنسا والدول الغربيَّة) لقتل المسلمين (العرب والطوارق) وتهجيرهم من أرضهم. وأعلاها تصفهم بالكفَّار الأفارقة الذين يسعون لإبادة المسلمين غير الأفارقة. واعتبرها بعضهم حربا صليبيَّة على المسلمين يشارك فيها أبناء مالي والمنطقة. فقُدِّمَت هذه الورقة في تلك الدورة لبيان:  أنَّه عبر كلِّ القرون والممالك والإمبراطوريَّات الإسلاميَّة التي ازدهرت فيها الحضارة والثقافة الإسلاميَّة في غرب أفريقيا وُجِدَتْ قياداتٌ دينيَّة إسلاميَّة خارجيَّة مُخلصة في النصيحة لله ولعامَّة المسلمين وخاصَّتهم، بعيدة عن اتِّباع الهوى والعصبيَّة، كان لها أثرٌ كبير في ترسيخ الأخوَّة الدينيَّة والإنسانيَّة، وتحقيق الوئام الوطنيِّ، وتعزيز السلم، والاستقرار الاجتماعيِّ، في المنطقة كجلال الدين السيوطي.  أمَّا في العصر الحديث فقد وجدنا لِقلَّةٍ من تلك القيادات أثرا إيجابيًّا في أحداث مالي، وفي المقابل– وبخاصَّة في الأحداث التي وقعت في شمال مالي بسيطرة الحركات الجهاديَّة والانفصاليَّة عليه - كان دورُ الكثيرين منهم سيِّئا وسلبيًّا.  من النماذج الإيجابيَّة الحديثة: بعض علماء بلاد الحرمين الشريفين: سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز (ت 1420هـ)- رحمه الله- .  وإمام الحرم النبوي الشريف الشيخ عبد العزيز بن صالح –رحمه الله- في ثمانينيَّات القرن العشرين الميلادي.  وإمام الحرم المكيّ الشيخ محمد السبيِّل –رحمه الله- الذي زار جمهوريّة مالي عدَّة مرَّات؛ فقد زار مناطق مختلفة من مالي في ثمانينيَّات القرن العشرين الميلادي أيَّام الرئيس الجنرال موسى تراوري، وفي أواخر القرن العشرين الميلادي أيَّام الرئيس ألفا عمر كوناري، في ظلِّ تمرُّد الطوارق والعرب 1993-1996م؛ فزار المناطق الشماليَّة من مالي للوقوف على حقيقة ما كان ينشره كثير من جاليات أولئك المتمردين.
بإنعام النظر في مواقف القيادات الدينيَّة الإسلاميَّة السابقة التي انطلقت من الأخوَّة الإسلاميَّة والإنسانيَّة وما تقضتيانه من التآزر والتعاون ، ومن النصيحة الصادقة لله وللمسلمين عامَّتهم وخاصَّتهم، وما حقَّقته من نجاح، بإنعام النظر في مواقفها نجد أنَّها إنَّما نجحت في المساعدة في تعزيز الأمن والاستقرار، وترسيخ الوحدة الوطنيَّة، وتحقيق المصالحة الشعبيَّة بجمهوريَّة مالي؛ لأنَّها انطلقت انطلاقة صحيحة، هدفها تحقيق مصالح العباد والبلاد، وكانت بعيدة عن الهوى والزيغ، والحكم على الشي قبل تصوُّرره....إلخ.
والسؤال المهمُّ هو:  هل من قيادات دينيَّة إسلاميَّة خارجيَّة كان لهم – في الأحداث الأخيرة- مواقف سلبيَّة، وهل كان لها آثارها السيِّئة ؟.  والإجابة العلميَّة والموضوعيَّة: نعم، إنَّه كان لكثير من القيادات الدينيَّة الإسلاميَّة الخارجيَّة مواقف سلبيَّة  في أحداث عام 2012-2013م تركت آثارًا سيِّئة على الأمن والاستقرار، والوحدة الوطنية، والتعايش السلمي في مالي،  وحفرتْ جروحا عميقة في نفوس كثير من الماليِّين الخاصَّة والعامَّة؛ لأنَّ أصحاب هذه المواقف انطلقوا من الحكم على الشيء قبل تصوُّره؛ بسبب البِناء على معلوماتٍ ناقصة أو مشوَّهةٍ مستقاةٍ من مصادر كاذبة ومغرِّضة، أو من اتِّباع الهوى، أو التعصُّب العنصريِّ، أو لشيء في نفس يعقوب....إلخ.
من تلك المواقف: موقف الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين ممثَّلا في رئيسه الشيخ الدكتور يوسف القرضاوي وأمينه العامّ ، الذين رأوْا في مهاجمة الحكومة والجيش الفرنسي وقوّات دول غرب أفريقيا لتلك الحركات حربا صليبيَّة على المسلمين يشارك فيها أبناء مالي والمنطقة.  والأغرب اختلاف موقفه –هنا- عن موقفه من "تنظيم الدولة الإسلاميَّة" (داعِش) في البيان الذي أصدره الاتحاد نفسُه بيانًا في 3/7/2014م أعلن فيه " أنَّ إعلان فصيل معيَّن للخلافة باطل شرعا، لا تترتَّب عليه أيُّ آثار شرعيَّة، بل تترتَّب عليه آثار خطيرة على أهل السنَّة في العراق والثورة في سوريا". ووجد في الإعلان دلالةً على " الافتقار إلى فقه الواقع، وأشبه بالانقضاض على ثورة الشعب التي يشارك فيها أهل السنَّة بكلِّ قواهم".
و كان للعلماء والدعاة بمملكة البحرين بَيانٌ بتاريخ الاثنين 9 ربيع الأوَّل 1434هـ 21 يناير 2013م عن الحرب في مالي وقَّع عليه (81) شخصا. جاء فيه: أنَّ الحرب عدوان غاشم، وتعدٍّ لا يمكن السكوت عنه، مع تحذير الدول العربيَّة والإسلاميَّة من معاونة الجيش الفرنسي في حربه لمالي، ودعوة الأئمَّة والخطباء والدعاة إلى تعريف الناس بمحنة الشعب المالي.
 وطالبت نقابة الدعاة المصريَّة جميعَ الأنظمة العربيَّة والإسلاميَّة برفض العدوان على جمهوريَّة مالي وبدعم المقاومة في مالي بالمال والسلاح.
وذهب الشيخ محمد الحسن الددو، رئيس مركز تكوين العلماء بموريتانيا، إلى أنَّ ما تقوم به فرنسا من مساعدة الجيش المالي لقتال تلك الحركات الجهاديَّة " أعظمَ وأفظعَ من كل تلك الأخطاء التي يرتكبها بعض المسلمين" " وجريمة نكراء، وأمرا محرَّما شرعا". 
 وقال د.الخليل النحوي – من موريتانيا- مسوِّغًا موقف من اعتبرت الحرب "حربا صليبيَّة" (( إذا لم يقبل الساسة والعسكريُّون أن يتركوا فرصة لمعركة ناعمة تستهدف الإقناع بأدواته المناسبة طالما كان ذلك ممكنا؛ فسيكون من حقِّ كثيرين أن ينظروا إلى هذه الحرب باعتبارها حربا استعماريَّة صليبيَّة أخرى)).
أمَّا الشيخ أبو المنذر الشنقيطي فقد وجد في المعركة في مالي معركةً بين جماعة تسعى إلى تحكيم الشرع ودول كفريَّة تريد القضاء على دين الله. ويستغرب ألاَّ تجد الإمارات الإسلاميَّة التي قامت من أجل تحكيم الشريعة سنَدً ولا نصرًا من المسلمين([5]).
    ومن أشدِّ المواقف السلبيَّة والسيِّئة ما جاء في مقالة محمد سليمان الزواوي بمجلَّة البيان " معركة المركز والأطراف إفريقيا الوسطى نموذجا"([6]) ؛ فقد انطلق من خلط الأوراق غير المتشابهة ببعض، ومن اتِّباع الهوى، ومن التعصُّب العرقي والعنصري ، من مفرداته: (أفارقة ضدّ طوارق وعرب)، و (أفارقة مالي ضِدَّ الطوارق المسلمين)،  و (تطهير عرقي وديني من الماليين الوثنيين أو الكفَّار  و ( إعادة الكفَّة إلى صالح الأفارقة على حساب المسلمين)،   و(تفريغ المسلمين في مالي من مناطقهم لصالح غيرهم).
      إنَّ على القيادات الدينيَّة المتحدِّثة باسم الإسلام أفرادا أو هيئات في الخارج أن يخلصوا النصيحة لله وللمسلمين فيما يقولون، وأن يتجرَّدوا من الهوى والعصبيَّة، وتأجيج نار الفتن بين المسلمين، وأن يتثبَّتوا ويتبيَّنوا؛ فالحكم على الشيء فرعٌ عن تصوُّره؛ فقد كان لبعضهم يَدٌ طولى في إشعال نار الحميَّة الجاهليَّة، وفي تعميق شرْخ في جدار الوئام الاجتماعي والدينيّ، والمصالحة الشعبيَّة، وفي انعدام الأمن والاستقرار، ليس في مالي –فحسب- بل في كثير من المجتمعات والبلاد والشعوب الإسلاميَّة؛ بسبب مواقفهم السيِّئة ومنطلقاتها.
            ملحوظة: هذا ملخص بحث قدَّمه الباحث في شهر رمضان 1437هـ إلى الملتقى الرمضاني 25 للجنة الدعوة في أفريقيا بالرياض. وكان موضوع الملتقى: (الانحراف الفكري: أسبابه وسبل معالجته)، وقد فاز بحثه بالمركز الثاني لأفضل البحوث الخمسة الأولى من بين اثنين وأربعين بحثا، كُتبت في الموضوع نفسه وقدِّمتْ في الملتقى من علماء ودعاة، دكاترة وباحثين متخصصين.     
                                                   والله ولي التوفيق وهو الهادي إلى سواء السبيل                                                                                   



[1] - الانحراف الفكري: (  faculty.ksu.edu.sa/27846/page)
[2] - الانحراف الفكري (faculty.ksu.edu.sa/27846/Pages)  
[3] - انظر: التدابير الواقية (مرجع سابق)/ 103 ، والانحراف الفكري( faculty.ksu.edu.sa/27846/page)
   وموقع السكينة www.assakina.com/studies/5304.html
[4] - انظر: الأسس والمحدِّدات المختلفة لمواجهة الانحراف الفكري، د.عبد الرحمن معلا اللويحق/11، بحث مقدَّم للدورة التدريبيَّة: دور الإعلام في مجابهة الانحراف الفكري، القاهرة 1-5/2/1431هـ، 16-20/1/2010م( شبكة الألوكة).
[5] - انظر عن كلِّ ما تقدَّم:موقع المقريزي www.almaqreze.net www.hanein.info  بتاريخ 19/1/2013م.  www.dd sunnah.net بتاريخ 22/1/ 2013م.
[6] - مجلّة البيان، السنة 29، العدد 322، جمادى الآخرة 1435هـ أبريل 2014م ص37-39 (من إصدارات المنتدى الإسلامي).

التسميات:
نبذة عن الكاتب

اكتب وصف المشرف هنا ..

اشتراك

الحصول على كل المشاركات لدينا مباشرة في صندوق البريد الإلكتروني

شارك الموضوع

مواضيع ذات صلة

0 التعليقات:

ترجمة

كتابا

المدونات

back to top