جميع المواضيع


عتقد كثير من الناس أن الشعوب السوداء ليس لها تاريخ... أي أن تاريخها محكي. من المهم أن يعرف العالم أن لدى الأفارقة السود تاريخاً مكتوباً.
  الكثير يجهل عن المخطوطات في إفريقيا، بل إن الكثير يجزم بأن أفريقيا لم يكن لها صيت في العلوم. غير أن الحقيقة عكس ذلك، حيث أنه قبل 5000سنة إلى 4000سنة و على امتداد أفريقيا السوداء الشاسع من السودان و مروراً إلى الغرب إلى دول المغرب العربي و جنوبها مالي و النيجر إلى أقصى جنوبها مروراً بسهول السافانا ما كان يعرف بتقاطع الحضارات، كلها عرفت حضارات متعاقبة و تركت بصماتها في التاريخ و كان لها نصيب في الإنتاج الفكري و العلمي لا ينكره أحد.
  ‏مدينة تمبكتو درة الحضارة في أفريقيا الغربية و التي تقع على طرف أقصى المنحى الشمالي  ‏لنهر النيجر قبل أن ينحدر إلى الجنوب الشرقي عبر الصحراء، و تبعد المدينة حوالي عشرة ‏كيلو مترات من النهر ، تنتشر على رقعة صحراوية رملية، و تطمس الرمال آثار تلك ‏العاصمة التجارية و الثقافية العظيمة التي كانت حاضرة الصحراء على مدى قرون عديدة.
  
  إن في تمبكتو حوالي 200 ألف مخطوطة قديمة و التي كتبت بخط يدوي منمق كان الغرض من بعضها تعليم الفلك أو الرياضيات بينما كانت تحكي أخرى قصص من الحياة الاجتماعية و من دنيا الأعمال في تمبكتو أثناء "عصرها الذهبي" عندما كانت مركزاً للتعلم في القرن السادس عشر. و تشهد هذه الكنوز التي لا تقدّر بثمن، و التي يرقى أقدمها إلى القرن الثالث عشر، على أن تاريخ أفريقيا ليس شفهياً فحسب.

  إن كل هذا يبين أن الذاكرة الأفريقية ليست شفاهية فحسب. إنه تراث يثير مشاعر الخوف و الدهشة في آن معاً، إلى حدّ يشعر فيه الباحثون أنفسهم بالارتباك إزاء هذا الكمّ من المعارف المتيسرة. و يوضح جورج بوهاس، أستاذ اللغة العربية في "المدرسة العليا" في ليون و أحد مطلقي برنامج "فيكماس" (تقويم ونشر المخطوطات العربية لمنطقة أفريقيا جنوب الصحراء) قائلاً "إن مجموعة المخطوطات المتوفرة تقدَّر بـ000 180 مجلد، وكان 25% فقط منها موضع جرد، و10% موضع فهرسة، فيما 40% ما زال داخل حقائب من خشب أو حديد!" هذا عدا عن جميع المخطوطات المخبَّأة في المنازل والتي لا يرغب المحتفظون بها رفع اليد عنها"

تمبكتو.. ذاكرة العلوم في أفريقيا السوداء

من طرف Abdoul karim CISSE  |  نشر في :  الخميس, ديسمبر 18, 2014 0 تعليقات


عتقد كثير من الناس أن الشعوب السوداء ليس لها تاريخ... أي أن تاريخها محكي. من المهم أن يعرف العالم أن لدى الأفارقة السود تاريخاً مكتوباً.
  الكثير يجهل عن المخطوطات في إفريقيا، بل إن الكثير يجزم بأن أفريقيا لم يكن لها صيت في العلوم. غير أن الحقيقة عكس ذلك، حيث أنه قبل 5000سنة إلى 4000سنة و على امتداد أفريقيا السوداء الشاسع من السودان و مروراً إلى الغرب إلى دول المغرب العربي و جنوبها مالي و النيجر إلى أقصى جنوبها مروراً بسهول السافانا ما كان يعرف بتقاطع الحضارات، كلها عرفت حضارات متعاقبة و تركت بصماتها في التاريخ و كان لها نصيب في الإنتاج الفكري و العلمي لا ينكره أحد.
  ‏مدينة تمبكتو درة الحضارة في أفريقيا الغربية و التي تقع على طرف أقصى المنحى الشمالي  ‏لنهر النيجر قبل أن ينحدر إلى الجنوب الشرقي عبر الصحراء، و تبعد المدينة حوالي عشرة ‏كيلو مترات من النهر ، تنتشر على رقعة صحراوية رملية، و تطمس الرمال آثار تلك ‏العاصمة التجارية و الثقافية العظيمة التي كانت حاضرة الصحراء على مدى قرون عديدة.
  
  إن في تمبكتو حوالي 200 ألف مخطوطة قديمة و التي كتبت بخط يدوي منمق كان الغرض من بعضها تعليم الفلك أو الرياضيات بينما كانت تحكي أخرى قصص من الحياة الاجتماعية و من دنيا الأعمال في تمبكتو أثناء "عصرها الذهبي" عندما كانت مركزاً للتعلم في القرن السادس عشر. و تشهد هذه الكنوز التي لا تقدّر بثمن، و التي يرقى أقدمها إلى القرن الثالث عشر، على أن تاريخ أفريقيا ليس شفهياً فحسب.

  إن كل هذا يبين أن الذاكرة الأفريقية ليست شفاهية فحسب. إنه تراث يثير مشاعر الخوف و الدهشة في آن معاً، إلى حدّ يشعر فيه الباحثون أنفسهم بالارتباك إزاء هذا الكمّ من المعارف المتيسرة. و يوضح جورج بوهاس، أستاذ اللغة العربية في "المدرسة العليا" في ليون و أحد مطلقي برنامج "فيكماس" (تقويم ونشر المخطوطات العربية لمنطقة أفريقيا جنوب الصحراء) قائلاً "إن مجموعة المخطوطات المتوفرة تقدَّر بـ000 180 مجلد، وكان 25% فقط منها موضع جرد، و10% موضع فهرسة، فيما 40% ما زال داخل حقائب من خشب أو حديد!" هذا عدا عن جميع المخطوطات المخبَّأة في المنازل والتي لا يرغب المحتفظون بها رفع اليد عنها"

0 التعليقات:

 جـنّي:  وكانت من أهم المراكز العلمية في السودان الغربي، تأسست في القرن الثالث الهجري، وقد أسلم أهلها مع ملكهم المسمّى كـنبر، في القرن السادس الهجري، وكان إسلام السلطان المذكور أمام أربعة آلاف ومائتي عالم، ولما أسلم خرّب دار السلطنة وحولها إلى مسجد لله تعالى، وهو الجامع في جنّي، وأنشأ داراً أخرى لسكناه بجوار المسجد(5).
اشتهر أمر مدينة جـنّي بعد ذلك، ونفقت فيها أسواق العلوم والمعارف، ورحل الناس إليها من كل مكان، ويؤكّد ذلك قول السعدي: (وقد ساق الله – تعالى – لهذه المدينة المباركة سكاناً من العلماء والصالحين؛ من غير أهله من قبائل شتى وبلاد شتى).
وقد اعتنى الأساكي بمدينة جنّي اعتناءً كبيراً، فبنوا فيها المساجد ومساكن لطلاب العلم، وأغدقوا عليهم وعلى أساتذتهم الأرزاق، فاحتلّت مدينة جـنّي بذلك الدرجة الثانية في الميدان الثقافي بعد مدينة تنبكتو، وكان السلطان أسكيا محمد الكبير أوّل من عيّن القضاة في جـنّي للفصل بين الناس وفـق الشريعة الإسلاميّة.

مسجد جني

من طرف Abdoul karim CISSE  |  نشر في :  الخميس, ديسمبر 18, 2014 0 تعليقات

 جـنّي:  وكانت من أهم المراكز العلمية في السودان الغربي، تأسست في القرن الثالث الهجري، وقد أسلم أهلها مع ملكهم المسمّى كـنبر، في القرن السادس الهجري، وكان إسلام السلطان المذكور أمام أربعة آلاف ومائتي عالم، ولما أسلم خرّب دار السلطنة وحولها إلى مسجد لله تعالى، وهو الجامع في جنّي، وأنشأ داراً أخرى لسكناه بجوار المسجد(5).
اشتهر أمر مدينة جـنّي بعد ذلك، ونفقت فيها أسواق العلوم والمعارف، ورحل الناس إليها من كل مكان، ويؤكّد ذلك قول السعدي: (وقد ساق الله – تعالى – لهذه المدينة المباركة سكاناً من العلماء والصالحين؛ من غير أهله من قبائل شتى وبلاد شتى).
وقد اعتنى الأساكي بمدينة جنّي اعتناءً كبيراً، فبنوا فيها المساجد ومساكن لطلاب العلم، وأغدقوا عليهم وعلى أساتذتهم الأرزاق، فاحتلّت مدينة جـنّي بذلك الدرجة الثانية في الميدان الثقافي بعد مدينة تنبكتو، وكان السلطان أسكيا محمد الكبير أوّل من عيّن القضاة في جـنّي للفصل بين الناس وفـق الشريعة الإسلاميّة.

0 التعليقات:

من المعلوم في تاريخ المساجد في الإسلام، أنّ المسجد كان يؤدي دوره الديني والاجتماعي والتربوي، والسياسي، فكانت القرارات الحاسمة تُـتخذ في المسجد، إلى جانب الكراسي العلمية في جميع صنوف المعرفة، واستمر المسجد يؤدي هذه الأدوار حتّى ابتلي العالم الإسلامي بالاستعمار الغربي الذي حاول بكل قواه أن يحجّر دور المسجد، ويقصر نطاق مهامه على الصلوات المفروضة.
وقد كانت المساجد في عهد الأساكي تقوم بدورها الديني والتربوي والتعليمي، وذلك بفضل عناية هؤلاء الأساكي بها، حيث خصّصوا رواتب للعلماء الذين يدرّسون فيها، وللأئمة والخطباء والوعاظ.
ومن أهم المساجد التي اشتهرت بنشر الثقافة الإسلامية العربية 
 مسجد جنغراي بير:  وهو أول مسجد أُسـس في تنبكتو، وذلك في عهد سلطان مالي المسمى (مانسا موسى) 1325م

مسجد جينغريبير

من طرف Abdoul karim CISSE  |  نشر في :  الخميس, ديسمبر 18, 2014 0 تعليقات

من المعلوم في تاريخ المساجد في الإسلام، أنّ المسجد كان يؤدي دوره الديني والاجتماعي والتربوي، والسياسي، فكانت القرارات الحاسمة تُـتخذ في المسجد، إلى جانب الكراسي العلمية في جميع صنوف المعرفة، واستمر المسجد يؤدي هذه الأدوار حتّى ابتلي العالم الإسلامي بالاستعمار الغربي الذي حاول بكل قواه أن يحجّر دور المسجد، ويقصر نطاق مهامه على الصلوات المفروضة.
وقد كانت المساجد في عهد الأساكي تقوم بدورها الديني والتربوي والتعليمي، وذلك بفضل عناية هؤلاء الأساكي بها، حيث خصّصوا رواتب للعلماء الذين يدرّسون فيها، وللأئمة والخطباء والوعاظ.
ومن أهم المساجد التي اشتهرت بنشر الثقافة الإسلامية العربية 
 مسجد جنغراي بير:  وهو أول مسجد أُسـس في تنبكتو، وذلك في عهد سلطان مالي المسمى (مانسا موسى) 1325م

0 التعليقات:


نعلن للسادة الأساتذة والعلماء أن مجلس علماء وكتاب شمال مالي المرخص له بتاريخ 10 فبراير 2014 والذي يحمل الرقم: 0181/G-DB قرر عقد مؤتمره العام الأول للتعريف بالمجلس وأهدافه وبالمكتب التنفيذي الحالي، ويتشرف المجلس بدعوة سيادتكم للمشاركة في الحفل الافتتاحي وفق التوقيات التالية:
-       تاريخ المؤتمر: يومي السبت والأحد 3 ـ 4 من شهر يناير 2015م
-       مكان انعقاد المؤتمر: المركز الثقافي الإسلامي في حمد الله.
-       الحفل الافتتاحي يوم السبت 3 يناير في تمام الساعة العاشرة صباحا.

-       الحفل الختامي: يوم الأحد 4 يناير في تمام الساعة الرابعة مساء.

إعلان عن مؤتمر مجلس علماء وكتاب شمال مالي

من طرف Abdoul karim CISSE  |  نشر في :  الاثنين, ديسمبر 15, 2014 0 تعليقات


نعلن للسادة الأساتذة والعلماء أن مجلس علماء وكتاب شمال مالي المرخص له بتاريخ 10 فبراير 2014 والذي يحمل الرقم: 0181/G-DB قرر عقد مؤتمره العام الأول للتعريف بالمجلس وأهدافه وبالمكتب التنفيذي الحالي، ويتشرف المجلس بدعوة سيادتكم للمشاركة في الحفل الافتتاحي وفق التوقيات التالية:
-       تاريخ المؤتمر: يومي السبت والأحد 3 ـ 4 من شهر يناير 2015م
-       مكان انعقاد المؤتمر: المركز الثقافي الإسلامي في حمد الله.
-       الحفل الافتتاحي يوم السبت 3 يناير في تمام الساعة العاشرة صباحا.

-       الحفل الختامي: يوم الأحد 4 يناير في تمام الساعة الرابعة مساء.

0 التعليقات:



بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله وحده، وصلى الله وسلَّم على مَن لا نبيَّ بعده وعلى آله وصحابته ومَن تبعهم بإحسان إلى يوم الدِّين.
 وبعد:
فأشكر للذين دعَوْنِي للمشاركة في هذه الدَّورة العلميَّة بتقديم ورقة، وأخصُّ بالشكر الأخ الدكتور عبد العزيز محمد ميغا، كما أشكر لرابطة العالم الإسلامي ولمكتب هيئة الإغاثة الإسلاميَّة العالميَّة في مالي الاهتمامَ بالشأن المالي والمشاركة في البحث عن حلول واقعيَّة معقولة لِما مَرَّ به من أحداث جسيمة أدَّت إلى إحداث شرخٍ عميق في المجتمع الإسلاميّ في مالي يحتاج رَدمُه إلى جهود مخلصة من القيادات الدينيَّة الإسلاميَّة في الداخل والخارج، أمَّا في الداخل فقد قامت هذه القيادات –ولا تزال تقوم- بجهود جبَّارة أساسها الوحدة الدينيَّة، وترسيخ المحافظة على الانصهار الاجتماعيّ بين قبائلها لقرون مديدة منذ أيَّام الإمبراطوريات والدول الإسلاميَّة التي عرفتها منطقة غرب أفريقيا، حيث ورث عنها جمهوريَّة مالي أهمَّ مراكزها الحضاريَّة والعلميَّة، وأبرز الشعوب التي شاركت فيها السنغاي، والسوننكي، والماندنغ، والفلاتة، والعرب، والطوارق، وغيرهم.
وعبر كلِّ تلك القرون وُجِدَتْ قياداتٌ دينيَّة إسلاميَّة خارجيَّة مُخلصة في النصيحة لله ولعامَّة المسلمين وخاصَّتهم، بعيدة عن اتِّباع الهوى والعصبيَّة، كان لها أثرٌ كبير في ترسيخ الأخوَّة الدينيَّة والإنسانيَّة، وتحقيق الوئام الوطنيِّ، وتعزيز السلم، والاستقرار الاجتماعيِّ، في المنطقة.
أمَّا في العصر الحديث فقد وجدنا لِقلَّةٍ من تلك القيادات الدينيَّة الإسلاميَّة الخارجيَّة أثرا إيجابيًّا في أحداث مالي، وفي المقابل كان دورُ الكثيرين منهم– في الآونة الأخيرة- سيِّئا وسلبيًّا، أساسها اتِّباع الهوى أو التعصُّب العنصريُّ، والبِناءُ على معلوماتٍ ناقصة أو مشوَّهةٍ مستقاةٍ من مصادر كاذبة ومغرِّضة، والحكمُ على الشيء قبل تصوُّره، وبخاصَّة في الأحداث التي وقعت في شمال مالي بسيطرة الحركات الجهاديَّة والانفصاليَّة عليه ثمَّ قيام الجيش المالي ومعه قوَّات من فرنسا وتشاد ومجموعة دول غرب أفريقيا بقتال تلك الحركات.
ذلك التأثير للقيادات الدينيَّة الإسلاميَّة الخارجيَّة ما نحاول استحضارَ نماذج لها (قديما وحديثا) في هذه الورقة التي كتِبتْ على عُجالة.
 اللهمَّ أنت أعلم بي من نفسي وأنا أعلم بنفسي منهم فاجعلني-اللهمَّ- خيرًا ممَّا يظنُّون، واغفر لي ما لا يعلمون، ولا تؤاخذني بما يقولون، احلُلْ عقدة من لساني يفقهوا قولي، أ نت حسبي وعليك التُّكلان.




 نموذج قديم:
الإمام الحافظ جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي(ت 911هـ) الذي كان بينه وبين سلاطين بلاد السودان الغربي وعلمائها مراسلات علميَّة، ولقاءات في القاهرة. من أشهرها–قديما-  مراسلة لسلاطين وعلماء بلاد السودان الغربي عموما(مملكة سنغاي ومالي)، ولسلطان كاشنه خصوصا. وقد ضمنّها الوصيّة بتقوى الله، والتذكير بالآخرة وعدم الاغترار بالدنيا وزينتها، والدعوة إلى الوقوف عند حدود الأحكام الشرعيّة، وإلى العدل بين الرعيّة، والأمر بالمعروف وإنكار المخالفات الشرعية التي سمع عنها في دولهم. كما طالبهم باستفتاء أهل العلم الثقات من حملة الشريعة عن كلِّ ما يَعرِض لهم من مشكلات([1]).
وفي تاريخ الفتاش لمحمود كعت أنّ أسكيا محمد الكبير إمبراطور سنغاي الإسلاميّة التقى السيوطي بمصر في عودته عام 903هـ من أداء الحجّ([2])، وسأله عن قضايا شملت الشؤون الدينيَّة، والاجتماعيَّة، والسياسيَّة، والحِسبَة. وافقت إجاباتُ السيوطي عنها إجاباتِ علماء السودان الذين كان أسكيا قد سألهم كالشيخ محمد بن عبد الكريم المغيلي(ت 909 هـ) وغيره، كما يقع الحافر على الحافر([3])؛ فساعدتْ في إقرار الأمن الاجتماعي والدينيّ، والاستقرار السياسيِّ، والوئام الوطني...
وللسيوطي رسالة مهمة مؤرَّخة بحوالي عام 898هـ 1493م للعلماء والسلاطين في غرب أفريقيا: أرسلها إليه الشيخ شمس الدين محمد بن محمد بن علي  اللمتوني، سمّاها " مطلب الجواب بفصل الخطاب". وقد ردّ عليها السيوطي برسالة سمّاها "فتح المطلب المبرور وبرد الكبد المحرور في الجواب عن الأسئلة الواردة من التكرور" ([4]).
وفي هذه الرسالة مسائلُ فقهيَّة، وعقديَّة، وثقافيَّة وتعليميَّة، وأخرى تتعلق بالعادات الاجتماعيَّة والاقتصاديَّة، وبإدارة شؤون الناس، في بعض مجتمعات السودان الغربي، وداخل الصحراء، وفي حوض نهر السنغال ( بين مالي وموريتانيا والسنغال).
لكنّ وجود تلك القضايا لدى أولئك أو هؤلاء لا يمكن أن يمثل ظواهر عامّة؛ لأنّ أغلبها معاصٍ تنتشر في أيِّ مجتمع مسلم إذا وجدت الدواعي، كبعض ممارسات الحكم وسيطرة ذوي الأهواء، وضعف الوازع والنازع الديني، وغياب التوعية السليمة أو قِلَّتُها، والسعي في تصحيح أوضاعٍ وعاداتٍ وتقاليدَ موروثة، وتصحيح مفاهيم إسلاميَّة، وبخاصة في الأرياف ونحوها.
من الأدلَّة على أنَّها لم تكن تمثِّل ظواهر عامَّة:
           أ‌-   أنّ عصر اللمتوني وما قبله يمثل في الكثير من أجزاء أفريقيا الغربية الأخرى (وبخاصَّة أغلب الأجزاء التي ورثتها جمهوريَّة مالي الحديثة) جزءا مهما من عصور الازدهار الحضاريّ، والعلميّ والثقافي، والإصلاح الديني، والتوعية الإسلامية؛ بجهود منسا موسى–بعد عودته من أداء الحجّ عام (725هـ1323-1324م)- ومَنْ بعده من ملوك مالي وسنغاي حتى تاريخ هذه الرسالة، ثمَّ بجهود علماء أجلاَّء كانوا لا يخافون في الله لومة لائم.
          ب‌-  أغلب ما ورد في الرسالة لم يكن لِيَخْفَى على طلبة العلم المبتدئين في تلك العصور في ظلِّ وجود علماء أجلاَّء، ومراكز علميَّة وثقافيَّة وحضاريَّة مرموقة في غاو، وتنبكتو، وجَنِّي، وغيرها([5]). فالأمر من باب زيادة التوكيد والاطمئنان والتثبُّت وحشد أكبر قدر من جهود العلماء وأقوالهم في السعي لتحقيق التغييرات المطلوبة، كما تقدَّم في أسئلة أسكيا محمد للسيوطي.
ج‌-     أنَّ كثيرا من أولئك الملوك هم ممَّن جمع العلم والسلطان، ومَنْ لم يكن عالما اتَّخذ من العلماء والفقهاء البارزين مستشارا أو وزيرا يدير له شؤون الدولة والمجتمع على وفق الشريعة، ولا بدَّّ من هيئة شوريَّة على شكل لجنة الفتوى من كبار العلماء والفقهاء([6]). وكان السلاطين يحترمون هؤلاء العلماء والفقهاء، ويزورونهم في بيوتهم، ويستفتونهم، ويُشاوِرونهم في شؤون الدولة وما تتعرض له من أخطار ويأتمرون بأمرهم([7])، لم يتخلَّف عن هذه الأمور سلطان أو ملك في السودان الغربي.
         شَمِلتْ إجابات السيوطي مسائل متنوَّعة:
v    فقهيَّة وعقديَّة.
v    ثقافيَّة وتعليميَّة.
v    اجتماعيَّة واقتصاديَّة.
v    وأخرى تتعلق بالسياسة الشرعيَّة في إدارة شؤون الدولة ([8]).
ولا شكّ في أنّ إجاباتِه وتناولَها لهذه القضايا الشاملة قد شاركت بقوَّة في تحقيق الأمن والاستقرار في المجتمع الإسلامي وقتئذ (ومنه شعوب وأجزاء كبيرة في جمهوريَّة مالي الحاليَّة)؛ حيث وجدت صَدًى طيِّبا تعليميا وثقافيا، واجتماعيًّا، وسياسيا، وإصلاحيا لدى السائل نفسه، ولدى السلاطين والملوك، والعلماء والمثقَّفين، وفي المجتمعات التي نشرت فيها.
        يؤكِّد حصول هذا الصدى أنّ السيوطي كان على معرفة واسعة بالمنطقة ومجتمعاتها، وقضاياها الدينيَّة والاجتماعيَّة، والسياسيَّة، وغيرها. وكان أحدَ أهمِّ أركان التواصل الثقافي والتعاون العلمي بين مصر والسودان الغربي. ومعلوم أنّ أساس شهرته في السودان الغربي وذيوع مؤلفاته فيه، هو علاقاته الواسعة بعلمائه وملوكه وطلابه، والالتقاء بالكثير منهم في رحلاتهم لأداء الحجّ أو لطلب العلم، وكانوا يحضرون دروسه، ويقرأون عليه كتبه([9]). ويذكر بعض المصادر التاريخيَّة أنَّ أحد أبنائه كان مؤذِّنا بالجامع الكبير" جِنْغَرَيْ بِير" في تنبُكتو.
نماذج حديثة: بعض علماء بلاد الحرمين الشريفين:
      سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز (ت 1420هـ)- رحمه الله- رئيس إدارات البحوث العلميَّة والإفتاء والدعوة والإرشاد، المفتي السابق للمملكة العربيَّة السعوديَّة. فقد كان يبعث الوفود العلميَّة والدعويَّة إلى المنطقة للإرشاد والفتوى، وإصلاح ذات البين. ولمَّا ظهرت في شمال مالي- أواخر السبعينيَّات الميلاديَّة تقريبا- طائفة أطلقت على نفسها الجمعيَّة الإسلاميَّة (جمعيَّة أنصار السنَّة) في طور من أطوار النهضة الإسلاميّة الحديثة، ثمَّ انحرفتْ فأحدثتْ أمورا تخالف الشريعة ومنهج السلف؛ بسبب أهداف دنيويَّة شخصيَّة، ومخالفات دينيَّة كتكفير مَن لا ينتمي إليهم من المسلمين؛ فلا تأكل ذبائحهم، ولا تصلّي خلفهم أو في مساجدهم، ولا تزاوجهم؛ إذ تعدُّهم مشركين أو مرتدِّين تستبيح أعراضهم وأموالهم وأنفسهم. أو الاختلاف لأسباب دنيويَّة شخصيَّة، ودينيَّة فقهيَّة أو عقديَّة. فقد كان لذلك كلِّه آثاره السيِّئة دينيًّا واجتماعيًا، وعلميًّا، وسياسيًّا....
         اتخذَّت من إحدى القرى مقرًّا لها. وكوَّنتْ شبه قوَّات مسلَّحة بالأسلحة البيضاء( العِصِيِّ، والسيوف، والسكاكين، ونحوها)، كما سمحتْ لنفسها بإقامة الحدود-حسب زعمها- على أتباعها وبخاصَّة حدّ الردَّة (الخروج منها).
       الهدف الأساس من ذلك كلِّه هو الانفصالُ عن المجتمع شعبًا وحكومةً، وتديُّنًا، والطاعة المطلقة لأميرها أو لنائبه في كلِّ دولة.
        فأحدثت نوعا من الفتنة الدينيَّة، والانشقاق الاجتماعي، والخلل الأمني والثقافي، وعدم الاستقرار الاجتماعي والديني، في مالي وبعض الدول المجاورة (النيجر، وغانا، وغيرها) حتى أطلق عليهم مخالفوهم (الخوارج).
        فلمَّا استفحل أمرهم وبلغ إلى الشيخ ابن باز أرسل إليهم عام 1403هـ وفدًا ومعه رسالة إلى رئيسها للإصلاح والنصح والإرشاد، والأخذ بيدها إلى توحيد كلمة المسلمين والدعاة، وسدِّ الأبواب التي قد تُؤتَى الدعوةُ من قِبَلها بسبب هذه الجمعيَّة ونحوها، وذكر معوِّقات كثيرة لا تزال تواجه نشر الدعوة الإسلاميَّة، والاستقرار في بلاد المسلمين. وكان لرسالته:
       - صدى دينيٌّ، وعلميٌّ، ودعويٌّ، وإصلاحيٌّ، ظهر في تصحيح مفاهيم مختلفة، وتغيير مواقف كثير منهم؛ فخرجوا من الجمعيَّة.
       - دور كبير في تحقيق الأمن والاستقرار والمصالحة الوطنيَّة؛ بتوحيد صفِّ المسلمين، ومنع التقاتل والتناحر بينهم، أو الاصطدام مع الحكومة([10]).
       إمام الحرم النبوي الشريف الشيخ عبد العزيز بن صالح –رحمه الله- في ثمانينيَّات القرن العشرين الميلادي؛ فقد زار جمهوريَّة مالي في عهد الرئيس الأسبق الجنرال موسى تراوري، للدعوة إلى وحدة المسلمين في مالي، وعدم التنابذ والتناحر فيما بينهم بسبب مسائل اختلافيَّة بعضها من السنن.
         إمام الحرم المكيّ الشيخ محمد السبيِّل –رحمه الله- الذي زار جمهوريّة مالي عدَّة مرَّات؛ فقد زار مناطق مختلفة من مالي في ثمانينيَّات القرن العشرين الميلادي أيَّام الرئيس الجنرال موسى تراوري وكان الهدف هو الدعوة إلى وحدة المسلمين في ظلِّ ما بدأ ينتشر بينهم من تناحر وتنابذ بسبب مسائل عقديَّة وفقهيَّة.
        وزارها –أيضا- في أواخر القرن العشرين الميلادي أيَّام الرئيس ألفا عمر كوناري، في ظلِّ تمرُّد الطوارق والعرب 1993-1996م؛ فزار المناطق الشماليَّة من مالي للوقوف على حقيقة ما كان ينشره كثير من جاليات أولئك المتمردين الذين يعيشون في السعوديَّة ودول الخليج وغيرها في وسائل الإعلام العربيَّة المرئيَّة والمقروءة وبخاصَّة "جريدة المسلمون" التي كانت تصدر في جدَّة، من أخبار وصور تزعم ارتكاب فظائع وإبادة جماعيَّة في حقِّ المسلمين الطوارق والعرب من قِبَل الأفارقة الوثنيين جيشا وشعبا وحكومة!! فقد كان لِمَا سَجَّله خلال زياته –وليس مَن رأى كَمنْ سمع- أثر كبير جدًّا في دحض تلك المزاعم والأخبار لدى شعوب ودول عربيَّة كثيرة وبخاصَّة السعوديَّة.
بإنعام النظر في مواقف القيادات الدينيَّة الإسلاميَّة السابقة التي انطلقت من الأخوَّة الإسلاميَّة والإنسانيَّة وما تقضتيانه من التآزر والتعاون في تحقيق مصالح العباد والبلاد، ومن النصيحة الصادقة لله وللمسلمين عامَّتهم وخاصَّتهم، بإنعام النظر في مواقفها يُمكن استخراجُ أُسس عامَّة لتعزيز الأمن والاستقرار، وترسيخ الوحدة الوطنيَّة، وتحقيق المصالحة الشعبيَّة بجمهوريَّة مالي في ثلاثة محاور:
- المحور الحكومي: تحقيق المصالحة الحكوميَّة مع المواطنين بتحقيق:
أ- حفظ الضروريَّات الخمس: حفظ النفس، والدين، والعقل، والمال، والعرض (أو النسب) لكلّ الشعب بقبائله المختلفة؛ فتضرب بحديد من العدل والمساواة على يد مَن يريد العبث بواحد من هذه الضروريَّات ونحوها.
ب- العدل فرديًّا واجتماعيًّا.
ج- نشر العلم والوعي بالمواطنة الصالحة، والتشجيع الماديِّ والمعنوي لأصحابها.
د- التوعية بمكايد الأعداء في الداخل والخارج.
هـ- السهر على كلّ ما مِن شأنه تحقيق مصالح العباد والبلاد.
و- نشر ثقافة التعايش السلمي وأنَّه ضرورة دينيَّة، وإنسانيَّة؛ لأنَّ الإنسان اجتماعي بنفسه.
        -المحور الفردي:
أ‌-     المصالحة مع الله بالقيام بحق الله تعالى عليه على الوجه الذي ينبغي بلا إفراط أو تفريط.
ب- المصالحةُ مع النفس بالوعي قولا وعملا بأهميَّته وبدوره في المجتمع، وبما له وما عليه نحو نفسه ومجتمعه وحكومته.
ج- تصحيح مفاهيم دينيَّة واجتماعيَّة وغيرها.
د- الوعيُ بمكايد الأعداء في الداخل والخارج
هـ- الثقافةُ الواسعةُ عن المواطنة الصالحة، والحاجة الماسَّة إليها لتحقيق الأمن والاستقرار والمصالحة الوطنيَّة.
            - المحور المجتمعي:
أ- ضرورة سعي المجتمع –بكلِّ طوائفه- سعياً جادًّا قولا وعملاً وسلوكًا إلى كلِّ ما مِن شأنه توفيرُ الأمن والاستقرار للفرد؛ فيشعر بالأمن النفسيِّ، والدينيِّ، والثقافيِّ، والخلقيِّ، وبالاستقرار الاجتماعيِّ، والسياسيِّ، والاقتصاديِّ....إلخ.
ب‌-المداومة على نشر الوعي بضرورة وحدة المجتمع وتماسكه.

      إنَّ الدقَّة، والموضوعيَّة، والبحث العلميِّ الذي لا يعرف المجاملات والهوى، تفرضُ علينا سؤالا مهمٍّا جدًّا وهو: ألم توجد قيادات دينيَّة إسلاميَّة خارجيَّة كان لهم مواقف سلبيَّة تركت آثارًا سيِّئة على الأمن والاستقرار والوحدة الوطنية والتعايش السلمي في مالي؟.
والإجابة العلميَّة والموضوعيَّة تفرض علينا –أيضا- أن نقول إنَّما تقدَّم من نماذج إيجابيَّة -قديما وحديثا- لا تعني أنَّه لم يكن لبعض القيادات الدينيَّة الإسلاميَّة الخارجيَّة مواقف سلبيَّة تركت آثارًا سيِّئة على الأمن والاستقرار والوحدة الوطنية في مالي، وحفرتْ جروحا عميقة في نفوس كثير من الماليِّين الخاصَّة والعامَّة؛ لأنَّ أصحاب هذه المواقف انطلقوا من اتِّباع الهوى، والتعصُّب العنصري، والمعلومات الناقصة والمشوَّهة، ومن الحكم على الشيء قبل تصوُّره...إلخ. وبخاصَّة مواقف أولئك من الأحداث التي شهدتها مالي في شمالها عام 2012م التي قام بها حركات انفصاليَّة وجماعات جهاديَّة يقودها متمرِّدون طوارق وعرب، أبرز قادتها من غير المالييِّن. وما تبع ذلك عام 2013م من تدخُّل الجيش الفرنسي والتشادي وقوَّات دول المجموعة الاقتصاديّة لدول غرب أفريقيا لقتال الجماعات الجهاديَّة.
من تلك المواقف: موقف الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين ممثَّلا في رئيسه الشيخ الدكتور يوسف القرضاوي وأمينه العامّ الدكتور ناصر العمر، الذي اعتبره حربا صليبيَّة على المسلمين يشارك فيها أبناء مالي والمنطقة.
 والأغرب اختلاف موقفه –هنا- عن موقفه من "تنظيم الدولة الإسلاميَّة" (داعِش) حيث أصدر الاتحاد نفسُه بيانًا في 3/7/2014م أعلن فيه " أنَّ إعلان فصيل معيَّن للخلافة باطل شرعا، لا تترتَّب عليه أيُّ آثار شرعيَّة، بل تترتَّب عليه آثار خطيرة على أهل السنَّة في العراق والثورة في سوريا". ووجد في الإعلان دلالةً على " الافتقار إلى فقه الواقع، وأشبه بالانقضاض على ثورة الشعب التي يشارك فيها أهل السنَّة بكلِّ قواهم"([11]).  وليت الاتحاد وقفَ الموقفَ نفسه فيما وقع في شمال مالي من قِبَل الحركات الانفصاليَّة، والقاعدة وحلفائها أنصار الدين وحركة التوحيد والجهاد في غرب أفريقيا؛ فهما فصيلان معيَّنان مسلَّحان أراد الأوَّل فَرْضَ دولة طارقيَّة خالصة وعلمانيَّة، وأراد الآخَر فَرْضَ إمارة إسلاميَّة، ولأنَّ أكبرَ مَنْ تَضرَّرَ منهم – ولا يزال- هم المسلمون وبخاصَّة أهل السنَّة في مالي خاصَّة وفي غرب أفريقيا كلِّها!!!
وإذا كان أهلُ السنَّة في العراق هم المتضرِّر الأوَّل والأخير –داخليًّا وخارجيًّا- من أعمال " داعِش" التي أهونُ أضرارها أنَّها قدَّمتْ خدمات مجانيَّة للشيعة في حربِها الشعواء على السُّنَّة فإنَّ المُتضرِّر الأوَّل والأخير من أعمال هذه الحركات الجهاديَّة هم أهل السنَّة-أيضا- وأهونُ أضرارها أنَّها استأسَدْتْ عليهم غلاة الصوفيَّة وغوغائيِّيها وأعوانهم في الداخل والخارج؛ فأعلنوا الحرب شعواء حتى إنَّهم خَلَطُوا الحابل بالنَّابل من القول والعمل والوسائل في محاولاتِهم اليائسة للإتاحة بالإمام محمود ديكُّو، الرئيس السنِّي للمجلس الإسلامي الأعلى في مالي.
و للعلماء والدعاة بمملكة البحرين بَيانٌ بتاريخ الاثنين 9 ربيع الأوَّل 1434هـ 21 يناير 2013م عن الحرب في مالي وقَّع عليه (81) شخصا. جاء فيه: أنَّ الحرب عدوان غاشم، وتعدٍّ لا يمكن السكوت عنه، مع التحذير للدول العربيَّة والإسلاميَّة من معاونة الجيش الفرنسي في حربه لمالي، ودعوة الأئمَّة والخطباء والدعاة إلى تعريف الناس بمحنة الشعب المالي.
       وطالبت نقابة الدعاة المصريَّة جميع الأنظمة العربيَّة والإسلاميَّة برفض العدوان على جمهوريَّة مالي وبدعم المقاومة في مالي بالمال والسلاح.
       وذهب الشيخ محمد الحسن الددو، رئيس مركز تكوين العلماء بموريتانيا، إلى أنَّ ما تقوم به فرنسا من مساعدة الجيش المالي لقتال تلك الحركات الجهاديَّة " أعظم وأفظع من كل تلك الأخطاء التي يرتكبها بعض المسلمين" " وجريمة نكراء، وأمرا محرَّما شرعا".
      وقال د.الخليل النحوي – من موريتانيا- مسوِّغًا موقف من اعتبرت الحرب "حربا صليبيَّة" (( إذا لم يقبل الساسة والعسكريُّون أن يتركوا فرصة لمعركة ناعمة تستهدف الإقناع بأدواته المناسبة طالما كان ذلك ممكنا؛ فسيكون من حقِّ كثيرين أن ينظروا إلى هذه الحرب باعتبارها حربا استعماريَّة صليبيَّة أخرى))([12]).
أمَّا الشيخ أبو المنذر الشنقيطي فقد وجد في المعركة في مالي معركةً بين جماعة تسعى إلى تحكيم الشرع ودول كفريَّة تريد القضاء على دين الله. ويستغرب ألاَّ تجد الإمارات الإسلاميَّة التي قامت من أجل تحكيم الشريعة سنَدً ولا نصرًا من المسلمين([13]).
بل رأى بعض أولئك وآخَرون- ببراهين واهية- في الدِّراساتِ العلميَّة التي قام بها علماء أفذاذ من المنطقة وغيرها([14]) لبيان حكم الإسلام – على ضوء الكتاب والسنَّة ومنهج السلف الصالح- فيما قامت به تلك الجماعات الانفصاليَّة، والحركات الجهاديَّة باسم الجهاد وتطبيق للشريعة، رأوا في هذه الدراسات العلميّة والبيانات الواقعيَّة عدم العلميَّة، والتعبير عن رأي الحكومة، والانحياز....إلخ. وما هي كذلك.
 وَأَخْتِمُ هذه المواقف السلبيَّة بمحمد سليمان الزواوي في مقالتِه بمجلَّة البيان " معركة المركز والأطراف إفريقيا الوسطى نموذجا"([15]) ؛ فقد انطلق من خلط الأوراق غير المتشابهة ببعض، ومن اتِّباع الهوى، ومن التعصُّب العرقي والعنصري حسب مفرداته هو(أفارقة ضدّ طوارق وعرب)، لدرجة تكفير غيرهم من الماليِّين(أفارقة مالي ضِدَّ الطوارق المسلمون)؛ فَها هو يتحدَّث عن التطهير العرقي الذي تعرَّض له المسلمون في جمهوريَّة إفريقيا الوسطى من قِبل المسيحيِّين والوثنيِّين فجعله بشخصيَّاته ودوافعه، ومقدِّماته ونتائجه عينَ ما حدث في مالي قبل جمهوريَّة أفريقيا الوسطى !!!. وإليك الدليل من مقالته:
أ‌-  تطهير عرقي وديني من الماليين (الوثنيين أو الكفَّار) يقول: " ودائما عند ما يكون هناك مسلمون تغيب معايير حقوق الإنسان، ويتمُّ التعامي عن الانقلاب على الديمقراطية، ويتمُّ غضُّ الطرف عن ملاحقة من يقومون بالتطهير العرقي والمذابح الإثنيَّة، ويدخل مناصرو الحريَّات في حالة من الجمود السلبي حتى تَفْرَغ القوى المضادَّةُ من التطهير العرقي والدينيّ، حدث ذلك من قبلُ في مالي...."([16]). إذن ما وقع في مالي تجاه الحركات الجهاديَّة تطهيرٌ عرقيٌّ ودينيٌّ للمسلمين قام به غير المسلمين!!!. الزواوي مُصيب في مُقدَّماته وخاطئ في النتيجة والأهداف؛ فبين ما وقَع في أفريقيا الوسطى وما وقع في مالي بُعد المشرقين. 
ب‌- (أفارقة ضدّ طوارق وعرب)!!! و (أفارقة مالي ضدّ الطوارق المسلمين)!!! يقول الزواوي: "...كما تمَّ استدعاء القوَّات الفرنسيَّة لنجدة أفارقة مالي بعد ما تقدَّم الطوارق المسلمون باتِّجاه العاصمة بماكو، وباتت المطارات التي تسيطر عليها فرنسا في البلاد في خطر الوقوع في يد الطوارق وتبدِّل محدَّدات الصراع؛ لتأتي فرنسا مرَّة ثانية وتدفع الطوارق إلى الشمال، وتعيد الكفَّة إلى صالح الأفارقة على حساب المسلمين، الذين عادوا إلى النُّزوح في الجبال والكهوف بعيدًا عن مواطن الثروات، وشنَّت ضدَّهم مذابح دمويَّة شائنة تحت سمع وبصر فرنسا والمجتمع الدولي"([17]).
          ج- (تفريغ المسلمين في مالي من مناطقهم لصالح غيرهم)!!! يقول: " كانت استراتيجيَّة إفراغ المسلمين من مناطق صنع القرار في تلك الدول استراتيجيَّة ممنهجة ومنظَّمة، وتكرَّر ذلك النمط في كلّ من مالي، والنيجر، ونيجيريا، والمناطق الأخرى حول القارة "([18]).
        سنكتفي بالأسئلة الآتية عن الردِّ عليهم:
أ‌-  كيف نجد في قتال الجيش المالي ومعاونيه لهؤلاء المسلَّحين جريمة نكراء وما ارتكبته تلك الجماعات المسلَّحة من قتل، وسفك الدماء، وهتك الأعراض، ونهب الأموال أخطاءً لا جرائم ولا ارتكابا لكبائر الذنوب برغم مخالفتها الصريحة – على الأقلِّ- لحفظ الضروريَّات أو الكليَّات الخمس؟
ب‌-        أين البيان الذي أصدره هؤلاء المسلمون المخلصون لمَّا اعتدت المجموعات المسلَّحة على المواطنين في شمال مالي وكلُّهم مسلمون وأغلبهم من أهل السنَّة؛ فقتلوا الأبرياء، وهتكوا الأعراض، وشرَّدوا الأبرياء، ونهبُوا الممتلكات؟
ج‌- بِمَ تُوصف حرب حكومات البحرين وموريتانيا والجزائر وغيرها على هذه المجموعة في أراضيها وبمساعدة قوَّات وخبراء عسكريِّين من فرنسا في حالة موريتانيا؟ وما الفرق بين الذين تَسَلَّطوا في شمال مالي وبين أولئك؛ فإنَّما هذه امتدادات لتلك وأغلب قادتهم من الجزائر وموريتانيا؟ أو أنَّ الأمر هناك "محاربة للإرهاب" وهنا "مقاومة المجاهدين"؟؟؟؟
            د- ألم تتحالف هذه الجماعات الجهاديَّة مع الحركات العلمانيَّة التي أعلنت في وضح النهار وبصريح العبارة علمانيَّتَها وسعيها لإقامة دولة علمانيَّة قبل أن يقع بينها طلاق بائن؟
 إنَّ على القيادات الدينيَّة المتحدِّثة باسم الإسلام أفرادا أو هيئات في الخارج أن يخلصوا النصيحة لله وللمسلمين فيما يقولون، وأن يتجرَّدوا من الهوى والعصبيَّة، وتأجيج نار الفتن بين المسلمين، وأن يتثبَّتوا ويتبيَّنوا؛ فالحكم على الشيء فرعٌ عن تصوُّره؛ فقد كان لبعضهم يَدٌ طولى في إشعال نار الحميَّة الجاهليَّة، وفي تعميق شرْخ في جدار الوئام الاجتماعي والدينيّ، والمصالحة الشعبيَّة، وفي انعدام الأمن والاستقرار، ليس في مالي –فحسب- بل في كثير من المجتمعات والبلاد والشعوب الإسلاميَّة؛ بسبب مواقفهم السيِّئة ومنطلقاتها.
 وعلى القيادات الإسلاميَّة في الداخل - وأنتم منهم-  الدور الأكبر في نشر الوعي الدينيِّ، وثقافة التلاحم الاجتماعي، وفي ترسيخ الأمن والاستقرار والمصالحة الوطنيَّة، عن علم وبصيرة، وفقه للواقع بجوانبه المختلفة، وعن حكمةٍ وعدل، وردِّ الحقوق إلى أهلها، وتقديم درء المفاسد أو تقليلها على جلب المصالح أو تكميلها.
          واللهَ نسأل أن يجزي خيرًا كلَّ القيادات المخلصة في النصيحة لله ولعامَّة المسلمين وخاصَّتهم، وتسعى لتحقيق الأمن والاستقرار، والمصالحة الوطنيَّة في المجتمعات المسلمة، ويحفظ العباد والبلاد من غيرهم؛ إنَّه وليُّ التوفيق، وهو الهادي إلى سواء السبيل.
                كتبه/
                                          أ.د.هارون المهدي ميغا
                                                 جامعة الآداب والعلوم الإنسانيَّة، بماكو مالي  
                                                                        20/10/1435هـ،16/8/2014م  




1- انظر: نيل الابتهاج بتطريز الديباج، أحمد بابا التنبكتي، تحقيق د.علي عمر2/265، مكتبة الثقافة الدينية، القاهرة، ط1عام 1423هـ 2004م ، والإسلام في نيجيريا والشيخ عثمان بن فوديو الفلاني، آدم عبد الله الآلوري /89، ط3، عام 1398هـ 1978م.
2- انظر: تاريخ الفتاش في أخبار البلدان والجيوش، محمود كعت /12-13، 68، نشر هوداس ودلافوس ، مطبعة برين ، باريس عام 1332هـ 1913م
3- انظر: المصدر السابق/ 15
4- ينظر نصّ الرسالتين في: الحاوي للفتاوى، عبد الرحمن السيوطي ، ج1/284-291، 291-294، دار الكتب العلمية، بيروت، عام 1408هـ 1988م. ويلحظ أنّ السيوطي يستعمل كلمة " التكرور" –تارة- ويريد بها السودان الغربي.
5– انظر: الحاوي للفتاوى ج1/284-291.
6– الإسلام في نيجيريا/74
7– انظر: بحث: " تجارة القوافل بين المغرب والسودان الغربي وآثارها الحضارية حتى القرن السادس عشر الميلادي " د.الشيخ الأمين عوض الله/97 ضمن كتاب : تجارة القواالعربية الإسلامية/139هاية القرن التاسع عشر الميلادي ، لمجموعة من الباحثين ، معهد البحوث والدراسات العربية، بغداد، المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، عام 1404هـ 1984م، مؤسسة الفليج للطباعة والنشر ، الصفاة ، الكويت. 
8- انظر: الحاوي للفتاوى ج1/ 291-294. وقد ناقشنا هذه الرسالة وما يتعلَّق بها بالتفصيل في بحوث أخرى كالمراسلات العلميَّة وأثرها التعليمي والثقافي والإصلاحي بغرب أفريقيا، التي ستنشر في كتاب، إن شاء اله.
9– انظر: التحدّث بنعمة الله/ 158، 211، والثقافة العربية الإسلامية/139
10- انظر التفاصيل في بحثنا: المراسلات العلميَّة وأثرها التعليمي والدعوي بغرب أفريقيا، رسالة ابن باز نموذجا، مجلَّة قراءات أفريقيَّة، العدد 3، ذو الحجَّة 1429هـ ديسمبر 2008م ص8-15
  11- مقال فهمي هويدي" داعش بين سخافتين" 7/7/2014م www.aljazeera.net  
12- الشرق الأوسط عدد 12434، الأربعاء 11 ربيع الأوَّل 1434هـ 23 يناير 2013م.
13- انظر عن كلِّ ما تقدَّم:موقع المقريزي www.almaqreze.net www.hanein.info  بتاريخ 19/1/2013م.  www.dd sunnah.net بتاريخ 22/1/ 2013م.
[14]- كدراسة المجلس الإسلامي الأعلى: "حمل السلاح لتطبيق الشريعة في العصر الحديث، ما وقع في مالي نموذجا" رمضان 1433هـ يوليو 2012م التي قام بها باحثون وعلماء أجلاَّء من مالي، وأقرَّه المؤتمر الوطني للعلماء، هذا المجلس الذي بذل الغالي والنفيس في الحوار مع هذه الحركات الجهاديَّة لجذبِهم إلى صوت الإسلام والعقل والتلاحم بين شعوب المنطقة وما فيه مصالح العباد والبلاد، دون جدوى. وبيان اتِّحاد علماء أفريقيا " الأحداث في مالي، رؤية عن قرب" بتاريخ 5/3/1434هـ، 17/1/2013م،  وبيان رابطة الدعاة في مالي بتاريخ 15/3/1434هـ 27/1/2013م، وقد وقََّع عليه (49) عالما وداعية. والذين شاركوا في الأعمال الثلاثة أو ناقشوها هم من خيار العلماء ومن خرِّيجي المعاهد والجامعات الإسلاميَّة والعربيَّة في تخصُّصات متعدِّدة وبشهادات عالية (الليسانس، والماجستير، والدكتوراه)، وعاملون في مجال الدعوة وتدريس العلوم الإسلامية والعربيَّة بمستوياته ومراحله المختلفة.
15- مجلّة البيان، السنة 29، العدد 322، جمادى الآخرة 1435هـ أبريل 2014م ص37-39 (من إصدارات المنتدى الإسلامي).
16- المرجع السابق/37-38
17- المرجع نفسه/38
18- المرجع نفسه/39

نماذج من دور قيادات دينيَّة إسلاميَّة خارجيَّة

من طرف Abdoul karim CISSE  |  نشر في :  الثلاثاء, ديسمبر 02, 2014 0 تعليقات



بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله وحده، وصلى الله وسلَّم على مَن لا نبيَّ بعده وعلى آله وصحابته ومَن تبعهم بإحسان إلى يوم الدِّين.
 وبعد:
فأشكر للذين دعَوْنِي للمشاركة في هذه الدَّورة العلميَّة بتقديم ورقة، وأخصُّ بالشكر الأخ الدكتور عبد العزيز محمد ميغا، كما أشكر لرابطة العالم الإسلامي ولمكتب هيئة الإغاثة الإسلاميَّة العالميَّة في مالي الاهتمامَ بالشأن المالي والمشاركة في البحث عن حلول واقعيَّة معقولة لِما مَرَّ به من أحداث جسيمة أدَّت إلى إحداث شرخٍ عميق في المجتمع الإسلاميّ في مالي يحتاج رَدمُه إلى جهود مخلصة من القيادات الدينيَّة الإسلاميَّة في الداخل والخارج، أمَّا في الداخل فقد قامت هذه القيادات –ولا تزال تقوم- بجهود جبَّارة أساسها الوحدة الدينيَّة، وترسيخ المحافظة على الانصهار الاجتماعيّ بين قبائلها لقرون مديدة منذ أيَّام الإمبراطوريات والدول الإسلاميَّة التي عرفتها منطقة غرب أفريقيا، حيث ورث عنها جمهوريَّة مالي أهمَّ مراكزها الحضاريَّة والعلميَّة، وأبرز الشعوب التي شاركت فيها السنغاي، والسوننكي، والماندنغ، والفلاتة، والعرب، والطوارق، وغيرهم.
وعبر كلِّ تلك القرون وُجِدَتْ قياداتٌ دينيَّة إسلاميَّة خارجيَّة مُخلصة في النصيحة لله ولعامَّة المسلمين وخاصَّتهم، بعيدة عن اتِّباع الهوى والعصبيَّة، كان لها أثرٌ كبير في ترسيخ الأخوَّة الدينيَّة والإنسانيَّة، وتحقيق الوئام الوطنيِّ، وتعزيز السلم، والاستقرار الاجتماعيِّ، في المنطقة.
أمَّا في العصر الحديث فقد وجدنا لِقلَّةٍ من تلك القيادات الدينيَّة الإسلاميَّة الخارجيَّة أثرا إيجابيًّا في أحداث مالي، وفي المقابل كان دورُ الكثيرين منهم– في الآونة الأخيرة- سيِّئا وسلبيًّا، أساسها اتِّباع الهوى أو التعصُّب العنصريُّ، والبِناءُ على معلوماتٍ ناقصة أو مشوَّهةٍ مستقاةٍ من مصادر كاذبة ومغرِّضة، والحكمُ على الشيء قبل تصوُّره، وبخاصَّة في الأحداث التي وقعت في شمال مالي بسيطرة الحركات الجهاديَّة والانفصاليَّة عليه ثمَّ قيام الجيش المالي ومعه قوَّات من فرنسا وتشاد ومجموعة دول غرب أفريقيا بقتال تلك الحركات.
ذلك التأثير للقيادات الدينيَّة الإسلاميَّة الخارجيَّة ما نحاول استحضارَ نماذج لها (قديما وحديثا) في هذه الورقة التي كتِبتْ على عُجالة.
 اللهمَّ أنت أعلم بي من نفسي وأنا أعلم بنفسي منهم فاجعلني-اللهمَّ- خيرًا ممَّا يظنُّون، واغفر لي ما لا يعلمون، ولا تؤاخذني بما يقولون، احلُلْ عقدة من لساني يفقهوا قولي، أ نت حسبي وعليك التُّكلان.




 نموذج قديم:
الإمام الحافظ جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي(ت 911هـ) الذي كان بينه وبين سلاطين بلاد السودان الغربي وعلمائها مراسلات علميَّة، ولقاءات في القاهرة. من أشهرها–قديما-  مراسلة لسلاطين وعلماء بلاد السودان الغربي عموما(مملكة سنغاي ومالي)، ولسلطان كاشنه خصوصا. وقد ضمنّها الوصيّة بتقوى الله، والتذكير بالآخرة وعدم الاغترار بالدنيا وزينتها، والدعوة إلى الوقوف عند حدود الأحكام الشرعيّة، وإلى العدل بين الرعيّة، والأمر بالمعروف وإنكار المخالفات الشرعية التي سمع عنها في دولهم. كما طالبهم باستفتاء أهل العلم الثقات من حملة الشريعة عن كلِّ ما يَعرِض لهم من مشكلات([1]).
وفي تاريخ الفتاش لمحمود كعت أنّ أسكيا محمد الكبير إمبراطور سنغاي الإسلاميّة التقى السيوطي بمصر في عودته عام 903هـ من أداء الحجّ([2])، وسأله عن قضايا شملت الشؤون الدينيَّة، والاجتماعيَّة، والسياسيَّة، والحِسبَة. وافقت إجاباتُ السيوطي عنها إجاباتِ علماء السودان الذين كان أسكيا قد سألهم كالشيخ محمد بن عبد الكريم المغيلي(ت 909 هـ) وغيره، كما يقع الحافر على الحافر([3])؛ فساعدتْ في إقرار الأمن الاجتماعي والدينيّ، والاستقرار السياسيِّ، والوئام الوطني...
وللسيوطي رسالة مهمة مؤرَّخة بحوالي عام 898هـ 1493م للعلماء والسلاطين في غرب أفريقيا: أرسلها إليه الشيخ شمس الدين محمد بن محمد بن علي  اللمتوني، سمّاها " مطلب الجواب بفصل الخطاب". وقد ردّ عليها السيوطي برسالة سمّاها "فتح المطلب المبرور وبرد الكبد المحرور في الجواب عن الأسئلة الواردة من التكرور" ([4]).
وفي هذه الرسالة مسائلُ فقهيَّة، وعقديَّة، وثقافيَّة وتعليميَّة، وأخرى تتعلق بالعادات الاجتماعيَّة والاقتصاديَّة، وبإدارة شؤون الناس، في بعض مجتمعات السودان الغربي، وداخل الصحراء، وفي حوض نهر السنغال ( بين مالي وموريتانيا والسنغال).
لكنّ وجود تلك القضايا لدى أولئك أو هؤلاء لا يمكن أن يمثل ظواهر عامّة؛ لأنّ أغلبها معاصٍ تنتشر في أيِّ مجتمع مسلم إذا وجدت الدواعي، كبعض ممارسات الحكم وسيطرة ذوي الأهواء، وضعف الوازع والنازع الديني، وغياب التوعية السليمة أو قِلَّتُها، والسعي في تصحيح أوضاعٍ وعاداتٍ وتقاليدَ موروثة، وتصحيح مفاهيم إسلاميَّة، وبخاصة في الأرياف ونحوها.
من الأدلَّة على أنَّها لم تكن تمثِّل ظواهر عامَّة:
           أ‌-   أنّ عصر اللمتوني وما قبله يمثل في الكثير من أجزاء أفريقيا الغربية الأخرى (وبخاصَّة أغلب الأجزاء التي ورثتها جمهوريَّة مالي الحديثة) جزءا مهما من عصور الازدهار الحضاريّ، والعلميّ والثقافي، والإصلاح الديني، والتوعية الإسلامية؛ بجهود منسا موسى–بعد عودته من أداء الحجّ عام (725هـ1323-1324م)- ومَنْ بعده من ملوك مالي وسنغاي حتى تاريخ هذه الرسالة، ثمَّ بجهود علماء أجلاَّء كانوا لا يخافون في الله لومة لائم.
          ب‌-  أغلب ما ورد في الرسالة لم يكن لِيَخْفَى على طلبة العلم المبتدئين في تلك العصور في ظلِّ وجود علماء أجلاَّء، ومراكز علميَّة وثقافيَّة وحضاريَّة مرموقة في غاو، وتنبكتو، وجَنِّي، وغيرها([5]). فالأمر من باب زيادة التوكيد والاطمئنان والتثبُّت وحشد أكبر قدر من جهود العلماء وأقوالهم في السعي لتحقيق التغييرات المطلوبة، كما تقدَّم في أسئلة أسكيا محمد للسيوطي.
ج‌-     أنَّ كثيرا من أولئك الملوك هم ممَّن جمع العلم والسلطان، ومَنْ لم يكن عالما اتَّخذ من العلماء والفقهاء البارزين مستشارا أو وزيرا يدير له شؤون الدولة والمجتمع على وفق الشريعة، ولا بدَّّ من هيئة شوريَّة على شكل لجنة الفتوى من كبار العلماء والفقهاء([6]). وكان السلاطين يحترمون هؤلاء العلماء والفقهاء، ويزورونهم في بيوتهم، ويستفتونهم، ويُشاوِرونهم في شؤون الدولة وما تتعرض له من أخطار ويأتمرون بأمرهم([7])، لم يتخلَّف عن هذه الأمور سلطان أو ملك في السودان الغربي.
         شَمِلتْ إجابات السيوطي مسائل متنوَّعة:
v    فقهيَّة وعقديَّة.
v    ثقافيَّة وتعليميَّة.
v    اجتماعيَّة واقتصاديَّة.
v    وأخرى تتعلق بالسياسة الشرعيَّة في إدارة شؤون الدولة ([8]).
ولا شكّ في أنّ إجاباتِه وتناولَها لهذه القضايا الشاملة قد شاركت بقوَّة في تحقيق الأمن والاستقرار في المجتمع الإسلامي وقتئذ (ومنه شعوب وأجزاء كبيرة في جمهوريَّة مالي الحاليَّة)؛ حيث وجدت صَدًى طيِّبا تعليميا وثقافيا، واجتماعيًّا، وسياسيا، وإصلاحيا لدى السائل نفسه، ولدى السلاطين والملوك، والعلماء والمثقَّفين، وفي المجتمعات التي نشرت فيها.
        يؤكِّد حصول هذا الصدى أنّ السيوطي كان على معرفة واسعة بالمنطقة ومجتمعاتها، وقضاياها الدينيَّة والاجتماعيَّة، والسياسيَّة، وغيرها. وكان أحدَ أهمِّ أركان التواصل الثقافي والتعاون العلمي بين مصر والسودان الغربي. ومعلوم أنّ أساس شهرته في السودان الغربي وذيوع مؤلفاته فيه، هو علاقاته الواسعة بعلمائه وملوكه وطلابه، والالتقاء بالكثير منهم في رحلاتهم لأداء الحجّ أو لطلب العلم، وكانوا يحضرون دروسه، ويقرأون عليه كتبه([9]). ويذكر بعض المصادر التاريخيَّة أنَّ أحد أبنائه كان مؤذِّنا بالجامع الكبير" جِنْغَرَيْ بِير" في تنبُكتو.
نماذج حديثة: بعض علماء بلاد الحرمين الشريفين:
      سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز (ت 1420هـ)- رحمه الله- رئيس إدارات البحوث العلميَّة والإفتاء والدعوة والإرشاد، المفتي السابق للمملكة العربيَّة السعوديَّة. فقد كان يبعث الوفود العلميَّة والدعويَّة إلى المنطقة للإرشاد والفتوى، وإصلاح ذات البين. ولمَّا ظهرت في شمال مالي- أواخر السبعينيَّات الميلاديَّة تقريبا- طائفة أطلقت على نفسها الجمعيَّة الإسلاميَّة (جمعيَّة أنصار السنَّة) في طور من أطوار النهضة الإسلاميّة الحديثة، ثمَّ انحرفتْ فأحدثتْ أمورا تخالف الشريعة ومنهج السلف؛ بسبب أهداف دنيويَّة شخصيَّة، ومخالفات دينيَّة كتكفير مَن لا ينتمي إليهم من المسلمين؛ فلا تأكل ذبائحهم، ولا تصلّي خلفهم أو في مساجدهم، ولا تزاوجهم؛ إذ تعدُّهم مشركين أو مرتدِّين تستبيح أعراضهم وأموالهم وأنفسهم. أو الاختلاف لأسباب دنيويَّة شخصيَّة، ودينيَّة فقهيَّة أو عقديَّة. فقد كان لذلك كلِّه آثاره السيِّئة دينيًّا واجتماعيًا، وعلميًّا، وسياسيًّا....
         اتخذَّت من إحدى القرى مقرًّا لها. وكوَّنتْ شبه قوَّات مسلَّحة بالأسلحة البيضاء( العِصِيِّ، والسيوف، والسكاكين، ونحوها)، كما سمحتْ لنفسها بإقامة الحدود-حسب زعمها- على أتباعها وبخاصَّة حدّ الردَّة (الخروج منها).
       الهدف الأساس من ذلك كلِّه هو الانفصالُ عن المجتمع شعبًا وحكومةً، وتديُّنًا، والطاعة المطلقة لأميرها أو لنائبه في كلِّ دولة.
        فأحدثت نوعا من الفتنة الدينيَّة، والانشقاق الاجتماعي، والخلل الأمني والثقافي، وعدم الاستقرار الاجتماعي والديني، في مالي وبعض الدول المجاورة (النيجر، وغانا، وغيرها) حتى أطلق عليهم مخالفوهم (الخوارج).
        فلمَّا استفحل أمرهم وبلغ إلى الشيخ ابن باز أرسل إليهم عام 1403هـ وفدًا ومعه رسالة إلى رئيسها للإصلاح والنصح والإرشاد، والأخذ بيدها إلى توحيد كلمة المسلمين والدعاة، وسدِّ الأبواب التي قد تُؤتَى الدعوةُ من قِبَلها بسبب هذه الجمعيَّة ونحوها، وذكر معوِّقات كثيرة لا تزال تواجه نشر الدعوة الإسلاميَّة، والاستقرار في بلاد المسلمين. وكان لرسالته:
       - صدى دينيٌّ، وعلميٌّ، ودعويٌّ، وإصلاحيٌّ، ظهر في تصحيح مفاهيم مختلفة، وتغيير مواقف كثير منهم؛ فخرجوا من الجمعيَّة.
       - دور كبير في تحقيق الأمن والاستقرار والمصالحة الوطنيَّة؛ بتوحيد صفِّ المسلمين، ومنع التقاتل والتناحر بينهم، أو الاصطدام مع الحكومة([10]).
       إمام الحرم النبوي الشريف الشيخ عبد العزيز بن صالح –رحمه الله- في ثمانينيَّات القرن العشرين الميلادي؛ فقد زار جمهوريَّة مالي في عهد الرئيس الأسبق الجنرال موسى تراوري، للدعوة إلى وحدة المسلمين في مالي، وعدم التنابذ والتناحر فيما بينهم بسبب مسائل اختلافيَّة بعضها من السنن.
         إمام الحرم المكيّ الشيخ محمد السبيِّل –رحمه الله- الذي زار جمهوريّة مالي عدَّة مرَّات؛ فقد زار مناطق مختلفة من مالي في ثمانينيَّات القرن العشرين الميلادي أيَّام الرئيس الجنرال موسى تراوري وكان الهدف هو الدعوة إلى وحدة المسلمين في ظلِّ ما بدأ ينتشر بينهم من تناحر وتنابذ بسبب مسائل عقديَّة وفقهيَّة.
        وزارها –أيضا- في أواخر القرن العشرين الميلادي أيَّام الرئيس ألفا عمر كوناري، في ظلِّ تمرُّد الطوارق والعرب 1993-1996م؛ فزار المناطق الشماليَّة من مالي للوقوف على حقيقة ما كان ينشره كثير من جاليات أولئك المتمردين الذين يعيشون في السعوديَّة ودول الخليج وغيرها في وسائل الإعلام العربيَّة المرئيَّة والمقروءة وبخاصَّة "جريدة المسلمون" التي كانت تصدر في جدَّة، من أخبار وصور تزعم ارتكاب فظائع وإبادة جماعيَّة في حقِّ المسلمين الطوارق والعرب من قِبَل الأفارقة الوثنيين جيشا وشعبا وحكومة!! فقد كان لِمَا سَجَّله خلال زياته –وليس مَن رأى كَمنْ سمع- أثر كبير جدًّا في دحض تلك المزاعم والأخبار لدى شعوب ودول عربيَّة كثيرة وبخاصَّة السعوديَّة.
بإنعام النظر في مواقف القيادات الدينيَّة الإسلاميَّة السابقة التي انطلقت من الأخوَّة الإسلاميَّة والإنسانيَّة وما تقضتيانه من التآزر والتعاون في تحقيق مصالح العباد والبلاد، ومن النصيحة الصادقة لله وللمسلمين عامَّتهم وخاصَّتهم، بإنعام النظر في مواقفها يُمكن استخراجُ أُسس عامَّة لتعزيز الأمن والاستقرار، وترسيخ الوحدة الوطنيَّة، وتحقيق المصالحة الشعبيَّة بجمهوريَّة مالي في ثلاثة محاور:
- المحور الحكومي: تحقيق المصالحة الحكوميَّة مع المواطنين بتحقيق:
أ- حفظ الضروريَّات الخمس: حفظ النفس، والدين، والعقل، والمال، والعرض (أو النسب) لكلّ الشعب بقبائله المختلفة؛ فتضرب بحديد من العدل والمساواة على يد مَن يريد العبث بواحد من هذه الضروريَّات ونحوها.
ب- العدل فرديًّا واجتماعيًّا.
ج- نشر العلم والوعي بالمواطنة الصالحة، والتشجيع الماديِّ والمعنوي لأصحابها.
د- التوعية بمكايد الأعداء في الداخل والخارج.
هـ- السهر على كلّ ما مِن شأنه تحقيق مصالح العباد والبلاد.
و- نشر ثقافة التعايش السلمي وأنَّه ضرورة دينيَّة، وإنسانيَّة؛ لأنَّ الإنسان اجتماعي بنفسه.
        -المحور الفردي:
أ‌-     المصالحة مع الله بالقيام بحق الله تعالى عليه على الوجه الذي ينبغي بلا إفراط أو تفريط.
ب- المصالحةُ مع النفس بالوعي قولا وعملا بأهميَّته وبدوره في المجتمع، وبما له وما عليه نحو نفسه ومجتمعه وحكومته.
ج- تصحيح مفاهيم دينيَّة واجتماعيَّة وغيرها.
د- الوعيُ بمكايد الأعداء في الداخل والخارج
هـ- الثقافةُ الواسعةُ عن المواطنة الصالحة، والحاجة الماسَّة إليها لتحقيق الأمن والاستقرار والمصالحة الوطنيَّة.
            - المحور المجتمعي:
أ- ضرورة سعي المجتمع –بكلِّ طوائفه- سعياً جادًّا قولا وعملاً وسلوكًا إلى كلِّ ما مِن شأنه توفيرُ الأمن والاستقرار للفرد؛ فيشعر بالأمن النفسيِّ، والدينيِّ، والثقافيِّ، والخلقيِّ، وبالاستقرار الاجتماعيِّ، والسياسيِّ، والاقتصاديِّ....إلخ.
ب‌-المداومة على نشر الوعي بضرورة وحدة المجتمع وتماسكه.

      إنَّ الدقَّة، والموضوعيَّة، والبحث العلميِّ الذي لا يعرف المجاملات والهوى، تفرضُ علينا سؤالا مهمٍّا جدًّا وهو: ألم توجد قيادات دينيَّة إسلاميَّة خارجيَّة كان لهم مواقف سلبيَّة تركت آثارًا سيِّئة على الأمن والاستقرار والوحدة الوطنية والتعايش السلمي في مالي؟.
والإجابة العلميَّة والموضوعيَّة تفرض علينا –أيضا- أن نقول إنَّما تقدَّم من نماذج إيجابيَّة -قديما وحديثا- لا تعني أنَّه لم يكن لبعض القيادات الدينيَّة الإسلاميَّة الخارجيَّة مواقف سلبيَّة تركت آثارًا سيِّئة على الأمن والاستقرار والوحدة الوطنية في مالي، وحفرتْ جروحا عميقة في نفوس كثير من الماليِّين الخاصَّة والعامَّة؛ لأنَّ أصحاب هذه المواقف انطلقوا من اتِّباع الهوى، والتعصُّب العنصري، والمعلومات الناقصة والمشوَّهة، ومن الحكم على الشيء قبل تصوُّره...إلخ. وبخاصَّة مواقف أولئك من الأحداث التي شهدتها مالي في شمالها عام 2012م التي قام بها حركات انفصاليَّة وجماعات جهاديَّة يقودها متمرِّدون طوارق وعرب، أبرز قادتها من غير المالييِّن. وما تبع ذلك عام 2013م من تدخُّل الجيش الفرنسي والتشادي وقوَّات دول المجموعة الاقتصاديّة لدول غرب أفريقيا لقتال الجماعات الجهاديَّة.
من تلك المواقف: موقف الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين ممثَّلا في رئيسه الشيخ الدكتور يوسف القرضاوي وأمينه العامّ الدكتور ناصر العمر، الذي اعتبره حربا صليبيَّة على المسلمين يشارك فيها أبناء مالي والمنطقة.
 والأغرب اختلاف موقفه –هنا- عن موقفه من "تنظيم الدولة الإسلاميَّة" (داعِش) حيث أصدر الاتحاد نفسُه بيانًا في 3/7/2014م أعلن فيه " أنَّ إعلان فصيل معيَّن للخلافة باطل شرعا، لا تترتَّب عليه أيُّ آثار شرعيَّة، بل تترتَّب عليه آثار خطيرة على أهل السنَّة في العراق والثورة في سوريا". ووجد في الإعلان دلالةً على " الافتقار إلى فقه الواقع، وأشبه بالانقضاض على ثورة الشعب التي يشارك فيها أهل السنَّة بكلِّ قواهم"([11]).  وليت الاتحاد وقفَ الموقفَ نفسه فيما وقع في شمال مالي من قِبَل الحركات الانفصاليَّة، والقاعدة وحلفائها أنصار الدين وحركة التوحيد والجهاد في غرب أفريقيا؛ فهما فصيلان معيَّنان مسلَّحان أراد الأوَّل فَرْضَ دولة طارقيَّة خالصة وعلمانيَّة، وأراد الآخَر فَرْضَ إمارة إسلاميَّة، ولأنَّ أكبرَ مَنْ تَضرَّرَ منهم – ولا يزال- هم المسلمون وبخاصَّة أهل السنَّة في مالي خاصَّة وفي غرب أفريقيا كلِّها!!!
وإذا كان أهلُ السنَّة في العراق هم المتضرِّر الأوَّل والأخير –داخليًّا وخارجيًّا- من أعمال " داعِش" التي أهونُ أضرارها أنَّها قدَّمتْ خدمات مجانيَّة للشيعة في حربِها الشعواء على السُّنَّة فإنَّ المُتضرِّر الأوَّل والأخير من أعمال هذه الحركات الجهاديَّة هم أهل السنَّة-أيضا- وأهونُ أضرارها أنَّها استأسَدْتْ عليهم غلاة الصوفيَّة وغوغائيِّيها وأعوانهم في الداخل والخارج؛ فأعلنوا الحرب شعواء حتى إنَّهم خَلَطُوا الحابل بالنَّابل من القول والعمل والوسائل في محاولاتِهم اليائسة للإتاحة بالإمام محمود ديكُّو، الرئيس السنِّي للمجلس الإسلامي الأعلى في مالي.
و للعلماء والدعاة بمملكة البحرين بَيانٌ بتاريخ الاثنين 9 ربيع الأوَّل 1434هـ 21 يناير 2013م عن الحرب في مالي وقَّع عليه (81) شخصا. جاء فيه: أنَّ الحرب عدوان غاشم، وتعدٍّ لا يمكن السكوت عنه، مع التحذير للدول العربيَّة والإسلاميَّة من معاونة الجيش الفرنسي في حربه لمالي، ودعوة الأئمَّة والخطباء والدعاة إلى تعريف الناس بمحنة الشعب المالي.
       وطالبت نقابة الدعاة المصريَّة جميع الأنظمة العربيَّة والإسلاميَّة برفض العدوان على جمهوريَّة مالي وبدعم المقاومة في مالي بالمال والسلاح.
       وذهب الشيخ محمد الحسن الددو، رئيس مركز تكوين العلماء بموريتانيا، إلى أنَّ ما تقوم به فرنسا من مساعدة الجيش المالي لقتال تلك الحركات الجهاديَّة " أعظم وأفظع من كل تلك الأخطاء التي يرتكبها بعض المسلمين" " وجريمة نكراء، وأمرا محرَّما شرعا".
      وقال د.الخليل النحوي – من موريتانيا- مسوِّغًا موقف من اعتبرت الحرب "حربا صليبيَّة" (( إذا لم يقبل الساسة والعسكريُّون أن يتركوا فرصة لمعركة ناعمة تستهدف الإقناع بأدواته المناسبة طالما كان ذلك ممكنا؛ فسيكون من حقِّ كثيرين أن ينظروا إلى هذه الحرب باعتبارها حربا استعماريَّة صليبيَّة أخرى))([12]).
أمَّا الشيخ أبو المنذر الشنقيطي فقد وجد في المعركة في مالي معركةً بين جماعة تسعى إلى تحكيم الشرع ودول كفريَّة تريد القضاء على دين الله. ويستغرب ألاَّ تجد الإمارات الإسلاميَّة التي قامت من أجل تحكيم الشريعة سنَدً ولا نصرًا من المسلمين([13]).
بل رأى بعض أولئك وآخَرون- ببراهين واهية- في الدِّراساتِ العلميَّة التي قام بها علماء أفذاذ من المنطقة وغيرها([14]) لبيان حكم الإسلام – على ضوء الكتاب والسنَّة ومنهج السلف الصالح- فيما قامت به تلك الجماعات الانفصاليَّة، والحركات الجهاديَّة باسم الجهاد وتطبيق للشريعة، رأوا في هذه الدراسات العلميّة والبيانات الواقعيَّة عدم العلميَّة، والتعبير عن رأي الحكومة، والانحياز....إلخ. وما هي كذلك.
 وَأَخْتِمُ هذه المواقف السلبيَّة بمحمد سليمان الزواوي في مقالتِه بمجلَّة البيان " معركة المركز والأطراف إفريقيا الوسطى نموذجا"([15]) ؛ فقد انطلق من خلط الأوراق غير المتشابهة ببعض، ومن اتِّباع الهوى، ومن التعصُّب العرقي والعنصري حسب مفرداته هو(أفارقة ضدّ طوارق وعرب)، لدرجة تكفير غيرهم من الماليِّين(أفارقة مالي ضِدَّ الطوارق المسلمون)؛ فَها هو يتحدَّث عن التطهير العرقي الذي تعرَّض له المسلمون في جمهوريَّة إفريقيا الوسطى من قِبل المسيحيِّين والوثنيِّين فجعله بشخصيَّاته ودوافعه، ومقدِّماته ونتائجه عينَ ما حدث في مالي قبل جمهوريَّة أفريقيا الوسطى !!!. وإليك الدليل من مقالته:
أ‌-  تطهير عرقي وديني من الماليين (الوثنيين أو الكفَّار) يقول: " ودائما عند ما يكون هناك مسلمون تغيب معايير حقوق الإنسان، ويتمُّ التعامي عن الانقلاب على الديمقراطية، ويتمُّ غضُّ الطرف عن ملاحقة من يقومون بالتطهير العرقي والمذابح الإثنيَّة، ويدخل مناصرو الحريَّات في حالة من الجمود السلبي حتى تَفْرَغ القوى المضادَّةُ من التطهير العرقي والدينيّ، حدث ذلك من قبلُ في مالي...."([16]). إذن ما وقع في مالي تجاه الحركات الجهاديَّة تطهيرٌ عرقيٌّ ودينيٌّ للمسلمين قام به غير المسلمين!!!. الزواوي مُصيب في مُقدَّماته وخاطئ في النتيجة والأهداف؛ فبين ما وقَع في أفريقيا الوسطى وما وقع في مالي بُعد المشرقين. 
ب‌- (أفارقة ضدّ طوارق وعرب)!!! و (أفارقة مالي ضدّ الطوارق المسلمين)!!! يقول الزواوي: "...كما تمَّ استدعاء القوَّات الفرنسيَّة لنجدة أفارقة مالي بعد ما تقدَّم الطوارق المسلمون باتِّجاه العاصمة بماكو، وباتت المطارات التي تسيطر عليها فرنسا في البلاد في خطر الوقوع في يد الطوارق وتبدِّل محدَّدات الصراع؛ لتأتي فرنسا مرَّة ثانية وتدفع الطوارق إلى الشمال، وتعيد الكفَّة إلى صالح الأفارقة على حساب المسلمين، الذين عادوا إلى النُّزوح في الجبال والكهوف بعيدًا عن مواطن الثروات، وشنَّت ضدَّهم مذابح دمويَّة شائنة تحت سمع وبصر فرنسا والمجتمع الدولي"([17]).
          ج- (تفريغ المسلمين في مالي من مناطقهم لصالح غيرهم)!!! يقول: " كانت استراتيجيَّة إفراغ المسلمين من مناطق صنع القرار في تلك الدول استراتيجيَّة ممنهجة ومنظَّمة، وتكرَّر ذلك النمط في كلّ من مالي، والنيجر، ونيجيريا، والمناطق الأخرى حول القارة "([18]).
        سنكتفي بالأسئلة الآتية عن الردِّ عليهم:
أ‌-  كيف نجد في قتال الجيش المالي ومعاونيه لهؤلاء المسلَّحين جريمة نكراء وما ارتكبته تلك الجماعات المسلَّحة من قتل، وسفك الدماء، وهتك الأعراض، ونهب الأموال أخطاءً لا جرائم ولا ارتكابا لكبائر الذنوب برغم مخالفتها الصريحة – على الأقلِّ- لحفظ الضروريَّات أو الكليَّات الخمس؟
ب‌-        أين البيان الذي أصدره هؤلاء المسلمون المخلصون لمَّا اعتدت المجموعات المسلَّحة على المواطنين في شمال مالي وكلُّهم مسلمون وأغلبهم من أهل السنَّة؛ فقتلوا الأبرياء، وهتكوا الأعراض، وشرَّدوا الأبرياء، ونهبُوا الممتلكات؟
ج‌- بِمَ تُوصف حرب حكومات البحرين وموريتانيا والجزائر وغيرها على هذه المجموعة في أراضيها وبمساعدة قوَّات وخبراء عسكريِّين من فرنسا في حالة موريتانيا؟ وما الفرق بين الذين تَسَلَّطوا في شمال مالي وبين أولئك؛ فإنَّما هذه امتدادات لتلك وأغلب قادتهم من الجزائر وموريتانيا؟ أو أنَّ الأمر هناك "محاربة للإرهاب" وهنا "مقاومة المجاهدين"؟؟؟؟
            د- ألم تتحالف هذه الجماعات الجهاديَّة مع الحركات العلمانيَّة التي أعلنت في وضح النهار وبصريح العبارة علمانيَّتَها وسعيها لإقامة دولة علمانيَّة قبل أن يقع بينها طلاق بائن؟
 إنَّ على القيادات الدينيَّة المتحدِّثة باسم الإسلام أفرادا أو هيئات في الخارج أن يخلصوا النصيحة لله وللمسلمين فيما يقولون، وأن يتجرَّدوا من الهوى والعصبيَّة، وتأجيج نار الفتن بين المسلمين، وأن يتثبَّتوا ويتبيَّنوا؛ فالحكم على الشيء فرعٌ عن تصوُّره؛ فقد كان لبعضهم يَدٌ طولى في إشعال نار الحميَّة الجاهليَّة، وفي تعميق شرْخ في جدار الوئام الاجتماعي والدينيّ، والمصالحة الشعبيَّة، وفي انعدام الأمن والاستقرار، ليس في مالي –فحسب- بل في كثير من المجتمعات والبلاد والشعوب الإسلاميَّة؛ بسبب مواقفهم السيِّئة ومنطلقاتها.
 وعلى القيادات الإسلاميَّة في الداخل - وأنتم منهم-  الدور الأكبر في نشر الوعي الدينيِّ، وثقافة التلاحم الاجتماعي، وفي ترسيخ الأمن والاستقرار والمصالحة الوطنيَّة، عن علم وبصيرة، وفقه للواقع بجوانبه المختلفة، وعن حكمةٍ وعدل، وردِّ الحقوق إلى أهلها، وتقديم درء المفاسد أو تقليلها على جلب المصالح أو تكميلها.
          واللهَ نسأل أن يجزي خيرًا كلَّ القيادات المخلصة في النصيحة لله ولعامَّة المسلمين وخاصَّتهم، وتسعى لتحقيق الأمن والاستقرار، والمصالحة الوطنيَّة في المجتمعات المسلمة، ويحفظ العباد والبلاد من غيرهم؛ إنَّه وليُّ التوفيق، وهو الهادي إلى سواء السبيل.
                كتبه/
                                          أ.د.هارون المهدي ميغا
                                                 جامعة الآداب والعلوم الإنسانيَّة، بماكو مالي  
                                                                        20/10/1435هـ،16/8/2014م  




1- انظر: نيل الابتهاج بتطريز الديباج، أحمد بابا التنبكتي، تحقيق د.علي عمر2/265، مكتبة الثقافة الدينية، القاهرة، ط1عام 1423هـ 2004م ، والإسلام في نيجيريا والشيخ عثمان بن فوديو الفلاني، آدم عبد الله الآلوري /89، ط3، عام 1398هـ 1978م.
2- انظر: تاريخ الفتاش في أخبار البلدان والجيوش، محمود كعت /12-13، 68، نشر هوداس ودلافوس ، مطبعة برين ، باريس عام 1332هـ 1913م
3- انظر: المصدر السابق/ 15
4- ينظر نصّ الرسالتين في: الحاوي للفتاوى، عبد الرحمن السيوطي ، ج1/284-291، 291-294، دار الكتب العلمية، بيروت، عام 1408هـ 1988م. ويلحظ أنّ السيوطي يستعمل كلمة " التكرور" –تارة- ويريد بها السودان الغربي.
5– انظر: الحاوي للفتاوى ج1/284-291.
6– الإسلام في نيجيريا/74
7– انظر: بحث: " تجارة القوافل بين المغرب والسودان الغربي وآثارها الحضارية حتى القرن السادس عشر الميلادي " د.الشيخ الأمين عوض الله/97 ضمن كتاب : تجارة القواالعربية الإسلامية/139هاية القرن التاسع عشر الميلادي ، لمجموعة من الباحثين ، معهد البحوث والدراسات العربية، بغداد، المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، عام 1404هـ 1984م، مؤسسة الفليج للطباعة والنشر ، الصفاة ، الكويت. 
8- انظر: الحاوي للفتاوى ج1/ 291-294. وقد ناقشنا هذه الرسالة وما يتعلَّق بها بالتفصيل في بحوث أخرى كالمراسلات العلميَّة وأثرها التعليمي والثقافي والإصلاحي بغرب أفريقيا، التي ستنشر في كتاب، إن شاء اله.
9– انظر: التحدّث بنعمة الله/ 158، 211، والثقافة العربية الإسلامية/139
10- انظر التفاصيل في بحثنا: المراسلات العلميَّة وأثرها التعليمي والدعوي بغرب أفريقيا، رسالة ابن باز نموذجا، مجلَّة قراءات أفريقيَّة، العدد 3، ذو الحجَّة 1429هـ ديسمبر 2008م ص8-15
  11- مقال فهمي هويدي" داعش بين سخافتين" 7/7/2014م www.aljazeera.net  
12- الشرق الأوسط عدد 12434، الأربعاء 11 ربيع الأوَّل 1434هـ 23 يناير 2013م.
13- انظر عن كلِّ ما تقدَّم:موقع المقريزي www.almaqreze.net www.hanein.info  بتاريخ 19/1/2013م.  www.dd sunnah.net بتاريخ 22/1/ 2013م.
[14]- كدراسة المجلس الإسلامي الأعلى: "حمل السلاح لتطبيق الشريعة في العصر الحديث، ما وقع في مالي نموذجا" رمضان 1433هـ يوليو 2012م التي قام بها باحثون وعلماء أجلاَّء من مالي، وأقرَّه المؤتمر الوطني للعلماء، هذا المجلس الذي بذل الغالي والنفيس في الحوار مع هذه الحركات الجهاديَّة لجذبِهم إلى صوت الإسلام والعقل والتلاحم بين شعوب المنطقة وما فيه مصالح العباد والبلاد، دون جدوى. وبيان اتِّحاد علماء أفريقيا " الأحداث في مالي، رؤية عن قرب" بتاريخ 5/3/1434هـ، 17/1/2013م،  وبيان رابطة الدعاة في مالي بتاريخ 15/3/1434هـ 27/1/2013م، وقد وقََّع عليه (49) عالما وداعية. والذين شاركوا في الأعمال الثلاثة أو ناقشوها هم من خيار العلماء ومن خرِّيجي المعاهد والجامعات الإسلاميَّة والعربيَّة في تخصُّصات متعدِّدة وبشهادات عالية (الليسانس، والماجستير، والدكتوراه)، وعاملون في مجال الدعوة وتدريس العلوم الإسلامية والعربيَّة بمستوياته ومراحله المختلفة.
15- مجلّة البيان، السنة 29، العدد 322، جمادى الآخرة 1435هـ أبريل 2014م ص37-39 (من إصدارات المنتدى الإسلامي).
16- المرجع السابق/37-38
17- المرجع نفسه/38
18- المرجع نفسه/39

0 التعليقات:

الاعضاء

Latest Tweets

نموذج الاتصال

الاسم

بريد إلكتروني *

رسالة *

Sample Video Widget

جميع الحقوق محفوظة. يتم التشغيل بواسطة Blogger.

ترجمة

كتابا

المدونات

back to top