قراءة نقديَّة في ثلاثة مفاهيم تاريخيَّة بغرب أفريقيا

من طرف Abdoul karim CISSE  |  نشر في :  الجمعة, مارس 17, 2017 0



بسم الله الرحمن الرحيم
قراءة نقديَّة في ثلاثة مفاهيم تاريخيَّة بغرب أفريقيا
                                أ.د.هارون المهدي ميغا
                                                قسم اللغة العربية
                                                 جامعة الآداب والعلوم الإنسانيَّة بماكو
             نُشِر في مجلَّة سَنكوري، مجلة فصليَّة محكَّمة، تصدر عن معهد أحمد بابا للدراسات العليا والبحوث الإسلاميّة، تنبكت، العدد المزدوج 8-9 يناير- يونيو/ يوليو- ديسمبر 2015م.

إنَّ ميادين التاريخ والحضارة بمختلف جوانبهما الدينيَّة، والسياسيَّة، والاجتماعيَّة، والعلميَّة والثقافيَّة...إلخ  لَتَزخَر في غرب أفريقيا بموضوعات قَيِّمة، وظواهر مُهمَّة، ومفاهيم مُنتشِرة، وقضايا متداخلة، لا تزال ميدانا بِكْرا، وأرضا خِصبة، للقيام ببحوث ودراسات علميَّة تهدف إلى:
أ- التركيز والتدقيقٍ بعيدا عن التعميم والإسقاط، وعن الاستعجال في إصدار الأحكام أو التسليم بها من غير وقفات نَيِّرة وفاحصة.
ب- القراءة العلميَّة الناقدة والدراسات التحليليَّة الموضوعيَّة.
ج-  أن يعتني بهذه البحوث والدراسات باحثون أكْفاء من أبناء المنطقة وغيرهم، جادُّون وموضوعيُّون، صابرون ومثابرون، هدفُهم الأوَّل والأخير إظهار الحقيقة والبرْهَنَة عليه، رغم الصعوبات الكثيرة التي ستواجههم.

 من تلك الموضوعات والظواهر –كما يبدو لي- تصحيحُ مفاهيم تاريخيَّة وقضايا حضاريَّة بغرب أفريقيا يكاد كثير من الباحثين يستقبلونها على أنَّها قضايا مُسلَّمة، ومفاهيم قاطعة.
سنقتصر في هذه العُجالة على ثلاثة مفاهيم و قضايا وثيقة الصلة بالتاريخ والحضارة وبعض صنَّاعها في غرب أفريقيا.

أوَّلا: زيارةُ السيوطي لغرب أفريقيا
ثانيا: موقفُ كثيرٍ من المؤرخين من سُونِّي علي بير(SONNY ALI BER)
ثالثا: بناءُ منسا موسى لمسجد غاو و" جِنْغَرَيْ بير" في تنبكتو


 (1)
زيارة السيوطي لغرب أفريقيا

للإمام الحافظ جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي (ولد في رجب 849هـ وتوفي 911هـ )(1) علاقات علميَّة وثقافيَّة قويَّة بسلاطين بلاد السودان الغربي وعلمائها.
 وقد تمثَّلتْ في أمرين مهمَّين وبارزين، أحدهما: لقاءاتُه المختلفة بهم في القاهرة في رحلة أدائهم لفريضة الحجّ؛ فيذكر أحمد بابا أنَّ جدَّه (والد والده): الفقيه أحمد بن عمر بن محمد أُقيْت(ت 942هـ) شرَّق فحجَّ عام 890هـ ولقي جلال الدين السيوطي(2).  وممن أخذ عن السيوطي لمّا حَجَّ العاقب بن عبد الله الأنوسَماني الأغاديسي، من بلدة تَكِدَّة في أغاديس بالنيجر –كان حيّا حوالي 950هـ (3).
وأسكيا محمد الكبير إمبراطور سنغاي الإسلاميّة في عودته عام 903هـ من أداء الحج التقى بمصر كثيرًا من العلماء والصالحين، منهم جلال الدين السيوطي رحمه الله تعالى، وسألهم عن قضايا وأمور؛ فأفْتَوْهُ فيها، وطلب منهم الدعاء (4). وقد وافقتْ إجاباتُهم عنها – وبخاصَّة السيوطي-  إجاباتِ علماء السودان الذين كان أسكيا قد سألهم، كما يقع الحافر على الحافر، كالشيخ محمد بن عبد الكريم المغيلي(ت 909 هـ) وغيره(5) حتى شَبَّهه كثيرٌ من الباحثين والمؤرِّخين بشيخ الإسلام بن تيمية في جهاده وجهوده لنشر الإسلام الصحيح، ومحاربة البدع والمنكرات؛ حيثُ تأثَّر المغيلي بأفكار ابن تيمية وبكتُبِه ورسائله، بل يقال إنَّه كانت بينهما مراسلات(6).
وقد كان للنصائح والتوجيهات العلميَّة – مكتوبة وغير مكتوبة- التي قدَّمها أولئك العلماء لأسكيا محمد أثر كبير في السياسة الشرعيَّة لإمبراطوريَّته، وفي تطوير التعليم الإسلامي العربي، وزيادة الاهتمام به ماديًّا ومعنويًّا. إضافةً إلى بروز تأثير أكبر للعلماء في مختلف شؤون الحياة والدولة في السودان الغربي.
 وللسيوطي نفسه في كتابه "التحدث بنعمة الله" إشاراتٌ كثيرة إلى لقاءاته في القاهرة بوفود حجّ السودان الغربي من السلاطين، والقضاة، وطلبة العلم، وإلى أَخْذِ بعضهم عنه وقراءتِهم كُتُبَه عليه(7) ؟

والأمر الآخَر الذي يُبرز علاقة السيوطي بغرب أفريقيا هو: المراسلاتُ العلميَّة بين السيوطي وبين علماء غرب أفريقيا وسلاطينه كمراسلته لسلطان كاشنه(8).
والمراسلة العلميّة بينه وبين محمد بن عبد الكريم المغيلي، وتتعلق بتحريم السيوطي للمنطق وتحليل المغيلي له وردّه عليه، وقد وردت الرسالتان نظما، ذكر أحمد بابا التنبكتي أبياتا منها (9).
 ومِن مُراسلات السيوطي للعلماء والسلاطين في غرب أفريقيا: رسالة مهمة مؤرَّخة بحوالي عام 898هـ 1493م، أرسلها إليه الشيخ شمس الدين محمد بن محمد بن علي  اللمتوني، سمّاها " مطلب الجواب بفصل الخطاب". وفيها مسائل فقهيَّة، وعقديَّة، وثقافيَّة وتعليميَّة، وأخرى تتعلق بالعادات الاجتماعيَّة والاقتصاديَّة، وبإدارة شؤون الناس في بعض مجتمعات السودان الغربي(10).
        ردَّ عليها السيُّوطي برسالة سمَّاها "فَتْحُ المَطْلَب المَبْرُور وبَرْدُ الكَبِد المَحْرُور في الجواب عن الأسئلة الواردة من التَّكْرُور" . وقسَّم إجاباته عن القضايا الواردة في رسالة اللمتوني وفق الحكم الشرعي المترتِّب على كلِّ مسألة، فمنها ما هو مقتضٍ للكفر مخرج من الملة، وما لا يقتضيه فحكمه إمّا حلال أو حرام، أو مكروه أو مباح(11).
            وقد وجدت الإجابات صَدًى طيِّبا تعليميًّا، وثقافيًّا، وإصلاحيًّا، ليس عند السائل فحسب بل وفي المجتمعات التي نُشرتْ فيها.
وقد بالغ بل تناقض د.مطير سعد غيث أحمد حين جعل عهد سُونِّي علي بير(Sonny Ali Ber ) فترة هذه الرسالة(12). وسيأتي البيان.
إنَّ هذه العلاقة الوثيقة التي تمثلَّت في التواصل العلمي والتعاون الثقافي بين السيوطي وغرب أفريقيا وعلمائه وسلاطينه جعل كثيرا من الباحثين يعتقدون أنّ السيوطي زار غرب أفريقيا ومكث في كاشنه، وأغادز، وكانو، ثم رجع إلى مصر، وأنَّه اجتمع والشيخ محمد المغيلي في بلاد السودان؛ فكانت بينهما المناظرة السابقة في المنطق، ثم اختُلِف في مكان الاجتماع أهو كاشنه أم تَكْدَه أم تنبكتو؟(13).
وكَوْنُ المناظرة بالمراسلة والسيوطي في مصر أشهر وأقوى؛ لأنَّه لا يمكن لزيارة مثل زيارة السيوطي أن تكون سَقَطا لا تتحدَّث عنها المصادر، كيف وقد ذاعت فيها مُراسَلَتَاهُ السابقتان، ولقاءاتُه في القاهرة بعلماء غرب أفريقيا وبسلاطينه، وقراءاتُهم كُتبَه عليه ؟؟!!!!
 وكيف تُغفِل المصادر زيارة السيوطي للمنطقة وقد حَظِي هو وكتبه بمكانة مرموقة في هذا الجزء من العالم الإسلامي؟
ثمَّ كيف لم يذكرها السيوطي نفسُه وفي كتابه "التحدُّث بنعمة الله" إشارات كثيرة إلى لقاءاته في القاهرة بوفود حجّ السودان الغربي من السلاطين، والقضاة، وطلبة العلم، وأخذ بعضهم عنه، وقراءتهم كُتُبَه عليه(14) ؟
ومن أقوى الأدلَّة على أنَّه لم يزر غرب أفريقيا ما توصَّل إليه الباحث عبد الله نبهان في دراسته عن السيوطي وفنّ السيرة الذاتية؛ فقد فَنَّد هذا الرأي، وبيَّن سببَ وقوع المؤرِّخين والمحقِّقين المعاصرين لبعض كتب السيوطي في هذا الخطأ، وهو القراءةُ الخاطئة لعبارة يتحدَّث فيها السيوطي عن سيرته الذاتية؛ فأشار إلى " التكرور "، جاء فيها (( وشرعتُ في التصنيف سنة ست وستين [وثمانمئة]، وبلغتْ مؤلَّفاتي إلى الآن ثلاثمائة كتاب، سوى ما غسلتُه، ورجعتُ عنه، وسافرتْ بحمد الله تعالى إلى بلاد الشام، والحجاز، واليمن، والهند، والمغرب، والتكرور )). حيث قرأ أولئك الباحثون والمُؤَرِّخون كلمة "سافرتْ" بسكون التاء "سافرتُ" بضم التاء على أنّه معطوف على الفعل "شرعتُ" ونحوه.
 والصواب سكون التاء "سافرتْ "؛ لأنّه تاء التأنيث والفاعل ضمير مستتر يعود على مؤلفات السيوطي؛ لأنَّه إنَّما كان يتحدَّث عن كتبه وانتشارها في البلاد لا عن نفسه هو وسَفريَّاته.
وقد أيّد الباحث نبهان هذا التصويب بنصِّ آخر أوضح يتحدَّث فيه السيوطي عن انتشار مؤلَّفاته وصيرورة كتبه في الآفاق، قال فيه: (( وصارتْ مؤلفاتي وعلومي في سائر الأقطار، ووصلتْ إلى الشام، والروم، والعجم، والحجاز، واليمن، والهند، والحبشة، والمغرب، والتكرور ))؛ فالسفر والانتقال والصيرورة في البلاد المذكورة إنَّما هي لمؤلَّفاته وليس له هو(15).
أمرٌ آخر مهم جدّا، ساعَد في الزَّعم بأنَّ السيوطي زار المنطقة ومن ثَمَّ الوقوع في خطأ تاريخي، وهو الخلط بين " جلال الدين السيوطي" وبين شخص آخر يلقَّب بـ: " السيوطي" تَذكُر بعض المصادر التاريخيَّة وجودَه في المنطقة في الفترة نفسها، لكنَّ التدقيق في المصادر نفسها يردُّ بقوَّةٍ على ذلك الزعم؛ لأنَّها  - كالفتاش(16) - تذكر أنّ نجل السيوطي واسمـه إبراهيم بن عبد الرحمن السيوطي هو الذي كان يعيش في تنبكتو، ويعمل مؤذنا في مسجده الكبير "جِنْغَرَيْ بِيرْ ".
فكيف يمكن أن تغفل زيارة عبد الرحمن السيوطي للمنطقة أو لهذه المدينة وهي تتحدَّث عن حياة نجله ووظفيته ؟؟؟
ثمَّ كيف يمكن أن تغفل المصادر زيارتَه والحاج المتوكِّل محمود كعت الأوَّل الذي نقل عنه صاحب "الفتاش" محمود كعت الثالث(17)، كان من العلماء المقرَّبين إلى إمبراطور سنغاي أسكيا محمد، وقد كان بصحبته في رحلته لأداء الحج التي التقى فيها بالسيوطي في القاهرة ؟!!، وها هو صاحب "الفتاش"  يذكر تواجد نجله في تنبكتو؟.
 واضحٌ –إذن_ أنَّ في الأمر توهُّمًا وخلطًا بين تواجد السيوطي نفسه في المنطقة وبين تواجد نجله السابق ذكرُه، ساعَدَ في الوقوع في خطأ تاريخي.

وهكذا فإنَّ السيوطي أحد أركان التواصل الثقافي والتعاون العلمي بين مصر والسودان الغربي،   وأساس شهرته في السودان الغربي وذيوع مؤلفاته فيه، هو علاقاتُه الواسعة بعلمائه وملوكه وطلابه، والالتقاء بالكثير منهم في رحلاتهم لأداء الحجّ أو لطلب العلم، وكانوا يحضرون دروسه، ويقرأون عليه كتبه(18).
ذلك التواصلُ الثقافي والتعاون العلمي، وتلك القراءةُ الخطأُ لعبارة أشار فيها إلى السودان الغربي أو التكرور، وهذا الخلطُ بينه وبين نجله إبراهيم السيوطي الذي كان في تنبكتو، كلُّ أولئك  ممَّا أوقع بعض المؤرِّخين والباحثين المحدثين في الزعم بأنَّه زار المنطقة ولم يكن الأمر كذلك كما تبيَّن من هذه القراءة الناقدة.











(2)
مَوقِفُ كثيرٍ مِنَ المؤرِّخِين
مِنْ
سُونِّي علي بير(SONNY ALI BER)

     تولَّى الإمبراطور سُونِّي علي بير( SONNY ALI  BER) إمبراطوريَّةَ سنغاي الإسلاميَّة بين عامي( 869-898هـ 1464-1492م). وتوفي في محرم عام 898هـ1492م. وفي عهده توسَّعت هذه الإمبراطوريَّة حتى شملتْ معظم غرب أفريقيا وأواسط الصحراء.
     إنَّ هذه الشخصية من أبرز الشخصيات التاريخية الأفذاذ في غرب أفريقيا الذين تعرَّضوا للتشويه والتجريح الشَّديد من قِبَل عدد كبير من المؤرِّخين والباحثين قديما وحديثا باستثناء قلَّة قليلة من المنصفين والمدققين، وقد وقع آخرون في تناقض.
       يقول أحد الباحثين عن سُونِّي علي بير: (( إنَّ معظم العلماء كانوا ينتقدونه، حيث كان مسلما لم يحسن إسلامُه، ولم تُحمَد سيرته، وفوق كلّ ذلك كان سُنِّي رمزا للثقافة السنغاويّة التقليديّة ))(19).
      ويقول آخرون: إنّ سُونِّي علي بير كان (( وثنيا بارعا في السحر حتى لُقِّب بـ"غَالِي" أي الأعلى، والإسلام عنده غطاء سياسي، لا غير))(20). فأنت ترى اتهامه بالنفاق " مسلم لم يحسن إسلامه، ورمز للثقافة السنغاويّة التقليديّة - منها السحر- قبل الإسلام. وأنّه لقِّب بـ"غالي" أي الأعلى؛ لوثنيته وبراعته في السحر، ومن ثَمَّ فالإسلام عنده اسم بلا مسمّى، أو كما يقول بعض الغربيين المعاصرين عن إسلام الأفريقيين: الإسلام الأسود، أو الإسلام السطحي(21). ناهيك عن وصفه بالخارجي، والظالم، والفاسق، والفاجر...إلخ.
         وقد بالغ محمود كعت وعبد الرحمن السعدي – رحمهما الله- مبالغة شديدة في كثير من الأوصاف السيئة التي وَصَفَاه بها(22)، وعنهما نقل الآخرون برغم أنَّ في كتابيهما ما ينقضهما حتى فيما ذكراه عن موقفه من العلماء، سيأتي البيان.

وإذْ قد تمَّت مناقشةُ تلك الأقوال والتُّهَم والردّ على معظمها في بحث سابق(23) فإنَّنا سنقتصر –هنا- على أمرين:  الأوَّل: موقف سونِّي علي من الفقهاء والعلماء وقضيَّة تهجيرهم إلى بير وتكدَّة وقتل مَن بقي منهم في تنبكتو. والثاني:  ما ورد عند د.مطير سعد غيث أحمد لأسباب منها: إقرارُه – تارة- بموقف السابقين، ومحاولةُ قَصر رسالة اللمتوني السابقة وما فيها من مخالفات على عهد سوني علي بير ( SONNY ALI BER) وعلى المجتمع الإسلامي في غرب أفريقيا، ويكاد يقع في تناقض بين الإقرار-تارة- بالموقف السابق وبين دفاعه عنه تارة أخرى، ثمَّ لأنَّ في مناقشته ردًّا عليه وعلى الموقف السابق.

ولْنَبدَأْ بـالأمر الأوَّل: موقف سونِّي علي من الفقهاء والعلماء وقضيَّة تهجيرهم إلى بير وتكدَّة وقتل مَن بقي منهم في تنبكتو. ونرجع إلى عبارتين للسعدي، يقول في الأولى: (( ولمَّا سمع أكِلْ [عمر] بمجيئه أحضر ألف جمل رحَّل فقهاء سُنْكُرَيْ(24) ومشى بهم إلى بير؛ فقال: إنَّ شأنهم هو الأهمّ عليه))(25).  ويقول في الأخرى: (( فاشتغل الظالم الفاسق بقتل مَن بقي منهم في تنبكتُ وإهانتهم، وزعم أنَّهم أحبَّاء التوارق وخاصَّتهم))(26).
المبالغة والمغالطة واضحتان فيهما من حيث: زعمُ أو تصوير أنَّ سونِّي علي قتل كلَّ مَن بقي من العلماء في تنبكتو، وتصوير أنَّه أبغضهم لأنَّهم أحبَّاء التوارق وخاصّتهم. فالأوَّل يتناقض وعبارة سونِّي علي التي نقلها عنه السعدي في نهاية وصفه له بالأوصاف السيِّئة، وثناء السعدي نفسه عليه؛ إذ يقول: (( مع هذه الإساءة كلِّها التي يفعل بالعلماء يُقِرُّ بفضلهم، ويقول: " لولا العلماء لا تحلو الدنيا ولا تطيب"، ويفعل الإحسان في آخرين ويحترمهم))(27).
 من هؤلاء الآخرين الذين يفعل الإحسان فيهم ويحترمهم: حفيد عبد الرحمن التميمي، وابن عمِّه المأمون والد عمَّار المأمون الذي (( لا يقول له سونِّي إلاّ أبي)) (28). ومنهم: جَدُّ جَدَّة السعدي نفسه سيدي عبد الله البلبالي، الذي يذكر السعدي نفسه أنَّ سُونِّي (( قد احترمه كثيرا جدًّا ))(29)....إلخ.
والآخَر: التعليل لموقف سونِّي علي من أكِلْ عمر ومَن هرب معه وغيرهم بأنَّه أبغض كلَّ العلماء؛ زعمًا منه بأنَّهم أحبَّاء الطوارق وخاصَّتهم. إنَّ هذا السبب ليس زعمًا بل هو واقع وصحيح بالنسبة لبعض الطوارق وسلطانهم أكِلْ عمر خاصَّةً، ولعلماء سُنكُرَيْ الذين هربوا معه –فحسب- ، وإليك الدليل:
1) علاقاتُ سونِّي الجيِّدة مع الجميع –الفقهاء وغيرهم- في أيَّام سلطان الطوارق أكِلْ محمد بن نضّ، والد أكِلْ عمر؛ فلم نسمَعْ شيئا من هذا التعارك.
2) الردُّ العنيف من أكِل عمر على سونِّي علي، وتهديدُه له، وإظهارُ الاستعداد لمحاربته، مع نقده اللاَّذع لوالده محمد بن نضّ ولعلاقته الطيِّبة مع سُونِّي علي(30).
3) أنَّه جهَّز  ألف جمل لنقل الفقهاء والعلماء من سُكُنرَيْ –فحسب-  الذين يؤيِّدونه؛ فهربوا معه، (( ولمَّا سمع أكِل [عمر] بمجيئه أحضر ألف جمال رحَّل فقهاء سُنْكُرَيْ ومشى بهم إلى بير؛ فقال: إنَّ شأنَهم هو الأهمُّ عليه))(31). فهذه تدلُّ على العلاقة الوثيقة بين الطرفين، وهي صريحة في أنَّ الفقهاء المقصودين هم بعض فقهاء مسجد سُنْكُرَيْ –فحسب-  وليس غيرهم من فقهاء وعلماء تنبكتو؛ إذ من الواضح أنَّهم لم يكونوا معه فلذلك لم يهتمَّ بشأنهم.
4) تَعاوُنُ تنبكتو كُيْ المختار بن محمَّد نضّ الذي تولَّى بعد هروب أخيه، تعاوُنُه مع سونِّي علي في مطاردة فلول الطوارق وأعوانهم من الفقهاء وغيرهم الذين هربوا إلى تَكِدَّة. ألا يدلُّ هذا على أنَّه لم يكن مع أكِلْ عمر كلُّ الطوارق وسلاطينهم والفقهاء، ولم يكونوا جميعا مهدِّدين لدولة سونِّي؛ فاختلف موقفُه وتعاملُه معهم(32).         
        تَدبَّرْ مُغايَرةَ موقف سُونِّي علي من علماء جنِّي- لمَّا خضعتْ له- لموقفه من بعض علماء تنبكتو(فقهاء سُنْكُرَى) الذين عنَّف عليهم؛ وقد كان لعلماء جنِّي –على اختلاف أجناسهم- نفوذ قويٌّ، وصلة وثيقة وحظوة بالسلطان، لكن لم يكونوا يمثِّلون (دولة داخل دولة)، ولم يتعاونوا مع آخرين ضدَّها، بخلاف حال بعض علماء تنبكتو(فقهاء سُنْكُرَى) أصدقاء الطوارق وسلطانهم أكِلْ عمر بن محمد نضّ ؛ فسعى سُونِّي علي لإخضاعهم لسلطة الدَّولة بالقضاء على غاراتهم، وتمرُّدهم، وقطعهم للطريق، والظلم الفاحش، والطغيان الكبير، والفساد في الأرض، وإخراج الناس من بيوتهم قهرا -كما يقول السعدي- ؛ ولذلك هرب هو وأولئك الفقهاء إلى بِيرْ لمَّا شرع جيش سوني علي في عبور النهر من الشاطئ الغربي إلى الشرقي(33).
       ولم تكن مدينة تنبكتو تفُوقُ جنِّي كثيرا في الناحية العلميّة ووجود العلماء فيها بدليل العدد الكبير- المُبالَغ فيه- من العلماء (4200 أربعة آلاف ومئتا عالم) الذين أعلن ملكها كُنبُرُ إسلامَه بحضرتهم(34)، في حين تفُوقُها جنِّي تماما في جوانب حضاريَّة كثيرة كالسياسيّة، والاقتصاديَّة، والعسكريَّة، والاستراتيجيَّة، وأطلق عليها بعض الرحَّالة ألأوروبيين لؤلؤة النيجر، وجوهرة وادي النيجر.
وأَنْعِمْ النظر:
- في قصَّة أكِلْ محمد، تنبكتو كُيْ أيَّام سيطرة الطوارق عليها مع الجدّ الأعلى لأحمد بابا: محمد أُقيْت، حين أراد الأخير السكنى في تنبكتو تجدْ أنَّه - بسبب ما وقع بينهما من نزاع وقتال سابقين- لم يسمح له أكِل إلاَّ بعد إلحاح وملاطفة شديدين من بعض الفقهاء، رغم شهادة أكِل نفسه بضعفه وقلّة حيلته حيث قال عنه: (( صار اليوم مسكينا، ذا عيال، لا يريد إلاّ العافية))(35). 
- وفي جزء من صورة بعض العلماء في تعاملهم مع السلاطين؛ (( فصاروا تحت أمره)) و(( يزورونه في بيته فلا يقوم لهم ولا يلتفتُ إليهم، ويهادونه بالهدايا والتحف تَتْرى))(36). ونحو: كان(( جَسوراً على السلطان فمن دونه، لا يبالي بهم، ووقع له معهم وقائع، وكانوا يخضعون له ويهابونه ويطاوعونه في كل ما أراد))(37).
  - ثمَّ في رَدِّ الفقيه عبد الله بن عمر بن محمد أُقَيْت على أخيه ألفا محمود لَمَّا طلب منه الحضورَ مِن تازِّخْت قرب بيرْ إلى تنبكتو والسكن فيها - بعد مَوْت سونِّي علي- ؛ (( فكتَب إليه أنَّه لا يأتيها؛ لأنَّ أهل سُنْكُرَى قاطعون الأرحام، وظِئر الأولاد، يفرِّقون أربابهم بالنميمة، وأيضا لا يسكن حيث كان ذريَّة سونِّي علي))(38)!!!
 فالقضيَّة كلُّها تَنْطلِق من الصراع السياسي والأمني–فحسب-  بين سلطة حاكمة ومُتمرِّدين عليها الطوارق الحلفاء التقليديون للطبقة الارستقراطية من العلماء والفقهاء من مختلف الأجناس. وليس من التعصُّبُ تجاه علماء من جنس مُعيَّن: فقهاء صنهاجة  قادمين في معظمهم من ولاتَة، والإساءةُ إليهم دون غيرهم من فقهاء الأجناس الأخرى، كما أراد الباحث الموريتاني د.حماه الله ولد السالم(39).
وليس العاملُ الاقتصادي هو السَّببَ الأقوى فيه – كما أراد الباحث نفسُه - وقد لَخَّصه في استشعار سُونِّي علي (( خَطَر التجَّار البيض من المسوفيين والعرب على تجارة المملكة، وخصوصا أنَّ تحالَف التجَّار مع فقهاء تنبكتو كان قويًّا، ممَّا زاد من حدَّة المواجهة))(40). إذن تُجَّارٌ وفقهاءُ بِيضٌ مسوفة وعرب يتعاونون وسلطان أبيض طارقي!!!! 
ولا غرابةَ من استنتاجات هذا الباحث القائمة على تحريف الحقائق التاريخيَّة؛ فهو مؤرِّخ مشهورفي التحريف، والتصحيف، وفي شَنْقَطَةِ وصَنْهَجَةِ وَمَرْتَنَةِ(41) المدن والتاريخ والحضارة الإسلامية في غرب أفريقيا ، وفي بثِّ السُّمِّ في الدَّسم. وما فعله في تحريره وتقديمه لكتابي: " تاريخ الفتَّاش، وتاريخ السودان" (42) يَفُوقُ ما فعله في كتابه السابق. وكذلك كان حلفاؤُه د.الهادي المبروك الدالي ود.محمّد سعيد القشَّاط في التعريب واللَّيْبَيَة ( لَيْبَيَة من ليبيا).
وأرجو أن يكون الباحثون الجادُّون قد شرعوا في بحوث ودراسات علميَّة تتناول تحريره وتقديمه لهذين الكتابين وما فيهما من أخطاء عِلميَّة، وتحريفات تاريخيَّة، أقلُّها جعلُ " تذكرة النسيان في أخبار ملوك السودان" تكملةً لتاريخ الفتَّاش ونِسبتُهُ لابن المختار. وبذلُ الغالي والنفيس لإثبات أنَّ مملكة غانا كانت خارج أراضي موريتانيا الحالية، وذلك في حواشي تحريره، وبصريح العبارة في الإعلان عن صدور الكتابين بموقع الأكاديميَّة الأفريقية أواخر عام 2012م 1433هـ!!

بعد هذا كلِّه يرد سؤال: ما التفسير العلميِّ لتناقض موقف السعدي من سونِّي علي؟
لعلَّ التفسير الصحيح لموقفه منه والراجحُ ما ذهب إليه بعض الباحثين، وهو:
1) أنَّ السعدي لم يَخصَّ سونِّي علي –فحسب- بتلك الأوصاف السيِّئة، بل –كثيراً مَّا- يرمي بها كُلَّ مَنْ يكرهُه، أو يكرهُه مَنْ يكتبُ له أو يُدافِع عنه كمنصور الدرعي، منها: الأبعد، الخاسر، الظالم، الفاجر، رأس الشياطين حَمَّد بِلَلْ، جاءت في خطابه إلى أهل غاو(43). وفي موضع آخر (( وأخبروا أنَّ الأبعد، الخاسر، الخارجيّ، جَنِّي كُيْ جهَّز جيشا إلى كَنْبَغَ.....فهزموه مع جيشه الأرذلين، الخاسرين، وكسروهم، وطردوهم....فولَّوْا مدبرين خائبين، أهلكه الله، ودمَّره تدميرا، وتبَّره تتبيرا))(44). قارِنْها بالأوصاف التي أسدلها على منصور الدرعي وجيشه(45).
2) علاقتُه المباشِرةُ بالسعديين الغزاة، ومن مظاهرها: الانتساب، والاتصالُ المباشر بأجهزة دولة الباشاوات؛ فقد تولَّى الإمامة في مسجد سُنكُرَيْ، وكتابةَ ديوان الباشا محمد بن محمد بن عثمان (توفي أوّل الربيع الأوَّل عام 1063هـ/1653م) فقد ذكر أنَّ هذا الباشا عَيَّنه كاتبًا؛ حيث التقى به في تنبكتو، ليلة الاثنين 5/4/1056هـ/1646م؛ (( فَرحَّب بي، وأكرمني، ورتَّبني كاتبًا))(46).  كما عمِل كاتبًا للقائد منصور بن مبارك الدرعي، وكان يرافقه في بعض رحلاته، كما في رحلته من جَنِّي إلى تنبكتو مرورا بغاو، وتحدَّث عن الغارات التي قاموا بها في الطريق. ولمَّا وصلهم خطابُ أهل غاو يوم الجمعة1/7/1057هـ الذي يسألون فيه عن أنبائهم هو والقائد وجيشه، تَولَّى السعدي – بأمر القائد منصور- كتابةَ الردِّ بتاريخ 2/7/1057هـ/1647م(47). كما ألَّف كتابه في عهدهم.
3) العُقدة النفسيَّة عند السعدي تجاه سُونِّي علي؛ بسبب كون جَدَّةِ والده (أُمُّ أُمِّ والده) عائشة الفلانيَّة إحدى أسيرات سونِّي في معاركه مع قبيلة سَنفَتير الفلانية، أهداها إلى جَدّ جَدَّته عبد الله البلبالي، (( بعث كثيرًا من نسائهم لكبراء تنبكتو وبعض العلماء الصالحين هديًا لهم وأمرهم أن يتخذوهم جواري؛ فمَن لا يراعي أمر دينه اتَّخذها كذلك ومن يرعى أمر دينه تزوَّج، منهم جدُّ جدَّتي – أمُّ والدي- السيد الفاضل الخيِّر الزاهد الإمام عبد الله البلبالي، تزوَّج التي بعثها له واسمها عائشة الفلانيَّة، ووَلَد منها نَانَا بِيرُ تُورام أمُّ والدي، وأدرك الوالد هذه العجوز قد كبرت جدًّا وعميتْ))(48).

الأمر الآخِِر الذي نعرض له فيما يتعلَّق بموقف الباحثين من سونِّي علي هو:  ما ورد عند د.مطير سعد غيث أحمد لأسباب منها: إقرارُه – تارة- بموقف السابقين، ومُحاولةُ قَصْرِ رسالة اللَّمتوني السابقة وما فيها من مخالفاتٍ على عهد سُونِّي علي بير(SONNY ALI BER) وعلى المجتمع الإسلامي في غرب أفريقيا، ويكاد يقع في تناقض بين الإقرار-تارة- بالموقف السابق وبين دفاعه عنه تارة أخرى، ثمَّ لأنَّ في مناقشته ردًّا عليه وعلى الموقف السابق.
من ذلك أنَّ د.مطير يجعل عهد سُونِّي علي بير فترةً لما ورد في رسالة اللمتوني السابقة التي أرسلها إلى السيوطي من التصرفات المخالفة للإسلام والتخليط بين الإسلام والتقاليد الوثنية الموروثة، ثم يقول: (( ويظهر أنّ الأمر تَفاقَم إلى درجة أَنْ استنجد أحد فقهاء المنطقة، وهو الفقيه شمس الدين اللمتوني الصنهاجي بالإمام عبد الرحمن السيوطي الذي أجاب عن تلك الاستفسارات....ويتبيَّن من تلك الوثيقة –آنذاك- مدى التردِّي الذي وصلت إليه أحوال الناس في السودان الغربي ؛ بسبب بطش حكامهم-آنذاك- من آل سُنِّي ، وتعسفهم من أجل الحصول على المال، إلى حدّ الاستيلاء على أراضي الرعية وأملاكهم، وتحميلهم ما لا يطيقون من الضرائب والإتاوات....))(49).
وإذا كان هذا التحديد لم يرد عند اللمتوني فلعلَّ د.مطير انطلق فيه من أمرين: أحدهما تاريخ شوال من عام 898هـ، وهو تاريخ وصول رسالة اللمتوني إلى السيوطي(50)، وعهد سونِّي علي في الملك بين عامي 869-898هـ 1464-1492م. وقد تُوفِّيَ في محرم عام 899هـ1492م.
وهذا لا ينهض دليلا؛ لأنَّ المسائل التي وردت في الرّسالة لا تخفى على طلبة العلم المبتدئين وبخاصة في عصر اللمتوني وما قبله وما بعده؛ إذ يتمثَّل فيه جُزءٌ مُهمٌّ من عصور الازدهار الحضاريّ، والعمليّ والثقافي، والإصلاحي. ولعلَّ تلك الأمور إنَّما كانت في بيئة الطوارق داخل الصحراء، والقبائل الفلاتيَّة والديالنكي في تكرور بحوض نهر السنغال(51). والأمر الآخر الذي انطلق منه هو: التأثُّر بما وقف عليه في المصادر والمراجع التاريخية التي تناقلتْ وصفَ سُونِّي علي بأسوء الصفات، بل وصفت إيمانَه بالتخليط بين المفاهيم الإسلامية والموروثات الوثنية ومن ثمّ الختم على عصره بأسوء الأوصاف والعادات.
وعندئذ يكون د.مطير قد وقع في تناقض أشدّ مما وقع فيه بعض تلك المصادر والمراجع حين وصفت سُونِّي علي بما تقدّم ثم وصفته –أيضا- بأعظم الصفات الحسنة، كعبد الرحمن السعدي الذي أقرّ لِسُونِّي علي – مع غلظته عليه – بأنّه يقرّ بفضل العلماء في الدين والدنيا، وذكر له عبارة مشهورة في ذلك يرددها وهي: (( لولا العلماء لا تحلو الدنيا ولا تطيب ))، ولِيُون الإفريقي الحسن الوزّان الذي  مَجَّد هذا الملك، وكذلك بعض العلماء الذين كان يحسن إليهم، ومنهم أحفـاد الفقيـه عبد الرحمن التميمي (52).
ولذلك فإنّ الباحث –لو سُلِّم له- سيتناقض بما سبق أن قرّره من نتائج حاسمة تفنِّد تلك المزاعم في حق سُونِّي علي، توصل إليها بمقدّمات قويّة ناقشتْها، كقوله:(( لكنَّ العديد من الدراسات المعاصرة فَنَّدت هذه الآراء وما ورد بها من نعوت وصف بها سنّي علي، وخلصتْ إلى أنّه من الرجال العظام بحيث أسس إمبراطورية مترامية الأطراف، وقضى مدّة حكمه فاتحا للأمصار، مُركِّزا لسلطاته الإدارية والتنظيمية، محاربا لمن يحاول أن يتدخل في شؤون دولته السياسية، وهذا ما جعله هدفا لمن يرفض ذلك، ولاسيما الفقهاء والعلماء ))(53).
ورغم نقد العديد من المصادر التاريخية لبعض تصرفات سُونِّي علي فإنّها لم تحكم بِعدم إسلامه.
والسؤال: لِمَ لَمْ يحكموا عليه بالكفر وبخاصة ما جاء في رسالة اللمتوني وغيره مما هو مقتضٍ للخروج من الملّة كالشرك الصريح بعبادة الأصنام وإنكار البعث، مع العلم بأنّ أكثر تلك المصادر كُتِبتْ  في غير عهده، وكان أصحابُها في مَأمَنٍ مِنْ أذاه؟
ثم ألا يمكن أن يكون اللمتوني – على افتراض أنّه يقصد سُونِّي علي-  من العلماء الذين نقموا على سنّي علي لمواقفه من هؤلاء العلماء؛ فعرضوا له ولحكمه بالتشويه ؟.
يَتَّفِق د.مطير مع غيره في أنّ سبب استعداء سُونِّي علي لعلماء تنبكتو هو (( أنّهم يتصرَّفون وكأنّهم يمثلون دولة داخل دولة، الأمر الذي حَدَا به أن يكسر شوكتهم حتى لا ينازعوه السلطة في مملكته ))(54).
ويقول في موضع آخر: (( يرى الباحث أنّ تلك الوضعية التي حظي بها الفقهاء في مملكة سنغاي هي سبب صراعهم مع السلطان سُنِّ علي بير ))(55).
يعلن د.مطير النتيجة التي توصل إليها فيقول: (( ويستنتج الباحث من خلال دراسة النصوص التاريخية التي كتبت بحق سنّي علي، وخصوصا من الكتّاب الذين عاصروه، أو كتبوا بعد وفاته مباشرة: أنّه قد تعرّض لتشويه متعمَّد من قِبَل مؤرخي تنبكتو الذين هم مؤرخو سلاطين سنغاي الذين تولَّوْا مقاليد الأمور من بعده، والذين كان من مصلحتهم تسويد صفحاته لتبييض صفحات مَنْ جاء بعده. ومن المعلوم أنّ مهمّة كتابة ذلك التاريخ وقعت على كاهل طبقة الفقهاء نفسها التي تعرّضتْ لقسوة سنّي علي، وهذا ما يفسر تحاملهم عليه، وكيل المدائح لخلفائه الذين سطّر هؤلاء الفقهاء تاريخهم في أحضانهم ))(56).
أفلا ينقض هذا كلُّه إمكانَ أن يكون عهد سُونِّي علي بير فترة لتلك التصرفات وبخاصة الخلطُ بين الموروثات والتقاليد وبين الإسلام لدرجة الإشراك بالله مع عدم تكفير أحد له ؟
وماذا –يا تُرى- سيكون أثَرُ أولئك العلماء والفقهاء الأفذاذ ذوي النفوذ العلمي والاجتماعي الكبيرين على الملوك والسلاطين في هذه العهود إذا انتشرت تلك الأمور وصارت ظاهرة وهم أولو الحِسْبة، والدعوة والتوعية، والقضاء؟.
أوَلَيْسَ من الظلم والتشويه للتاريخ الإسلامي في بعض أزهى عصوره وَصفُ السودان الغربي كلّه في هذا العهد بـ(( مدى التردّي الذي وصلت إليه أحوال الناس في السودان الغربي بسبب بطش حكامهم –آنذاك- من آل سُنِّي ...)) ؟ فكيف إذا تطرق إلى أدلّة هذا القول ملابسات واحتمالات قويّة، والدليل يبطل إذا تطرَّق إليه الاحتمال، ناهِيكَ عمَّا يترتَّب على التسليم به من تناقض ؟ ولَمْ تتضمن رسالة اللمتوني أيّ إشارة إلى آل سُونِّي؟
ولِسُونِّي علي بير عبارة مشهورة في تقدير العلماء وإبراز أهميَّته وتأثيرهم في شؤون الدين والدنيا شهد التاريخ بأنّه كان يرددها، وهي: " لولا العلماء لا تحلو الدنيا ولا تطيب"، نقلها عنه-كما تقدّم- أحد الذين عرضوا له بالتشويه، وهو السعدي!!!
ثم إنّ رسالة اللمتوني لَتَحتاجُ إلى نظرات مُنعِمَة تتعلق بالمؤلف نفسه وبالرسالة، منها: تجاهلُ المصادر للمؤلف بحيث لا يكاد يُعرَفُ عنه إلاّ ما ورد عند السيوطي من تذييل وتصدير(57).
يقول أحد الباحثين: (( لَمْ تورد المصادرُ التاريخية من تواريخ، وتراجم، وطبقات –على حدّ علم الباحث – معلومات عن شخصيّة اللمتوني، ما عدا ما ورد عنه لدى السيوطي عند حديثه عن الرسالة المشار إليها ))(58). فكيف يمكن لعالم أن يكون على هذا المستوى من العلم والعناية بشؤون الإسلام وقضايا مجتمعه الدينيّة، والعلميّة، والثقافيّة، والاجتماعيّة، والإداريّة، يصفها هذا الوصف، ثم يكون نَكِرَةً في بيئته؟
يزداد الأمرُ غرابةً بسبب التشابه الشديد في المضمون والأسلوب بين رسالة اللمتوني وأسئلة أسكيا محمد للمغيلي حتى قال د.مطير: (( إنّ الرسالة المذكورة [ أسئلة أسكيا محمد للمغيلي ] تتفق إلى حدّ بعيد في أفكارها وتشخيصها للواقع الثقافي، والاجتماعي لبلاد السودان الغربي مع ما أورده اللمتوني في رسالته الآنفة الذكر ))(59).
 ولا شكّ في أنّ هذا الاتفاق الكبير بينهما يتطلب دراسة تحليلية أعمق لهما، لعلّ الله يُيَسِّر لها باحثا متمكنا أو مؤرخا قديرا يتولاّها.
 وأمّا كتابات محمد بن عبد الكريم المغيلي وفتاويه لأسكيا محمد الكبير إمبراطور إمبراطوريّة سنغاي الإسلاميّة، ولأمير كانو أبي عبد الله محمد رنفا بن يعقوب، فالراجح أنّه كتبها عند ما كان في بلاط كلٍّ منهما؛ فلا تدخل في المراسلات، ويرجع تاريخ الأولى إلى عام 908-909هـ 1502-1503م، حسب استنتاج عبد القادر زبادية في مقدّمة تحقيقه لـ"أسئلة الأسقيا"(60).
وقد أجاب-أيضا- أحد أبرز تلاميذ المغيلي وهو العاقب بن عبد الله الأنوسَماني الأغاديسي –كان حيّا حوالي 950هـ- عن أسئلة لأسكيا محمد في كتاب بعنوان" أجوبة الفقير عن أسئلة الأمير"، وهو ممن أخذ عن السيوطي لمّا حجّ(61)، فهل لها علاقة بأسئلة أسكيا لأستاذه المغيلي؟ وهل كان ذلك بالمراسلة أو في لقاء بينهما؟ حيث إنّ مدينة أغاديس (شمال جمهوريّة النيجر، حاليا) من مدن إمبراطوريّة سنغاي وقد مكث فيها أسكيا محمد في طريق عودته من الحجّ وبنى مسجده الذي لا يزال يُعرف بـ(مسجد الحاج أسكيا محمد)، ويعدّ أكبر معلمة إسلاميّة وأبرز مسجد فيها.














(3)
بناء منسا موسى لمسجد غاو ولِـ" جِنْغَرَيْ بير" في تُنْبُكتُو

 اكتُشِف موقعُ مسجدٍ وقصر كبير في مدينة غاو نُسِب بناؤُه إلى الملك منسا موسى، ملك مملكة مالي،  الذي يذكر بعض المؤرخين أنّه هو الذي قام ببنائه -أثناء عودته من الحج حوالي عام 1325م بعد سيطرة جيشه على المدينة, ويتمّ التسويق له – إعلاميا حتى في برنامج تلفزيونيَّة ووثائقيَّة، ومطويَّات ثقافيَّة عن المواقع الأثريَّة في مالي(62)، ومن هؤلاء دي لافوس وبارث، ود. إبراهيم طرخان، ود.محمد الغربي، ود.منصور فاي..
وقد تعاقب على الحفر في الموقع عِدَّة فرق، الأولى فرنسيَّة جمعت تراثيَّات كثيرة ومتنوِّعة وأخذتْها إلى فرنسا، وقد كانت تشتري من الناس ما يعثرون عليه حتى من حَبَّات العقد. والثانية من اليابان.
أمّا القصر الملكيّ فقد حُدِّد موقعُه بخمسين إلى مئة متر تقريبا شمال الموقع المكتشَف وطُلِب من أصحاب المباني في الموقع – ومنهم حارس موقع الحفريات عبد العزيز محمد ميغا وبعض إخوانه- بمغادرتها؛ تمهيدًا لهدمها.
ونِسبَة بناء المسجد إلى منسا موسى تحتاج إلى وقفة نقديَّة فاحصة؛ لأنّ الموقعَ أقدمُ من عهد منسا موسى. وقد ذهب كثير من الباحثين إلى أنّ ما قام به منسا موسى إنّما هو تجديداتٌ أدخلتْ على مسجدٍ وقصرٍ كانا موجودين في الموقع، منهم: ر، موني R.MOUNY  ، وأيّده المؤرِّخ المالي سيكني مودي سيسكو، الذي ردَّ ما ذهب إليه دي لافوس وبارث وغيرهما بقوله: (( إنّ أحدا لا يعرف –على وجه الدقة- الفترة التي تمَّ فيها بناء هذا المسجد لأوّل مرّة؛ لأنّه يوجد احتمالٌ قوي في أنّه كان هناك –في نفس موقع المسجد سابقا- مسجد آخر ظلَّ يَفِي بغرض هذه المدينة المتواضعة في هذه الناحية. وذلك منذ القرن الثالث عشر الميلادي عند مرور منسا موسى على المدينة؛ اعتمادا على ما يراه السعدي من أنّ سلطان إمبراطوريَّة مالي لم يَقُمْ في الموقع إلاّ برفع منارة مسجد كان موجودا من قبل. كما أنّ السلطان من المحتمل أن يكون قام –فقط- بتوسيع مسجد قديم ))(63).
وقد رفض د.فاي منصور-رحمه الله- ما ذهب إليه سيسكو وغيره بأمور(64) منها: أنّه مبني على مجرّد احتمال. ولا يؤيده قول السعدي الذي استدل به؛ لأنّ السعدي قد عنوَنَ بـ: " ذِكرُ أئمَّة مسجد الجامع ومسجد سُنْكُرَى [Son kora  ] على الترتيب" وقال: (( أمّا الجامع فالسلطان الحاج موسى، صاحب مَلِِّ، هو الذي بناه وصومعته على خمسة صفوف))(65). ستأتي المناقشة إن شاء الله.
ومن أدلته قول د.طرخان –نقلا كما يقول د.فاي عن الآخرين-: (( وبنى الساحلي جامع غاو من الطوب المحروق ولم يكن هذا معروفا من قبل في السودان، وجعل مئذنته هرمية الشكل، وهذا أوّل بناء من هذا الطراز يدخل السودان، وسرعان ما انتشرت في جميع بلاد غرب أفريقيا))(66).
كما حمل د.فاي منصور ما ذهب إليه موني وسيسكو وغيرهما على ما قام به منسا موسى من تجديدات على جامع سُنْكُرَى في مدينة تنبكتو، لا مسجد غاو. يقول: (( ولعل هذا الجامع [ جامع سُنْكُرَى] هو الذي كان يقصده أصحاب الرأي الذي ناقشناه آنفا؛ فيكونون بذلك قد خلطوا بين أعمال السلطان موسى في الجامع الكبير في تنبكتو وبين عمله في إقامة مئذنة سُنْكُرَى. فتأمَّل))(67). 
 والواقع أنّ الدكتور فاي والذين نقل عنهم هم الذين خلطوا بين أمرين مختلفين، بينهما ما بين غاو وتنبكتو من مسافة (400 كيلو متر) ؛ فلا حجّة له فيما نقله عن السعدي وغيره من المحدَثين في ردّ ما ذهب إليه أولئك الباحثون ولا في القول بوقوعهم في خلط بدليل:
1) أنَّ حديث السعدي وسياقاته كان عن الجامع الكبير " جِنْغَرَيْ بير" ودار السلطنة في تنبكتو. أَنْعِمْ في قول السعدي الذي نقله د.فاي نفسه بعد حذف بدايته أو عنوانه [ ذِكرُ أئمَّة مسجد الجامع ومسجد سُنْكُرَى على الترتيب] : (( أمَّا الجامع الكبير فالسلطان الحاج موسى ، صاحب مالي، هو الذي بناه وصومعته على خمسة صفوف، والقبور لاصقة به من خارج الجامع في جهتي اليمين والمغرب. وتلك عادة السودان أهل المغرب لا يدفنون أمواتهم إلاّ في رحاب مساجدهم وجوانبها من خارج، وذلك بعد ما رجع من الحجّ وتملَّك تنبكتو ))(68).
             واضح من كلام السعدي أنّ حديثه عن الجامع الكبير ودار السلطان في تنبكتو، لا في غاو. ستأتي مناقشة هذه المسألة أيضا.
2) السعدي نفسُه إنَّما ذكر أنَّ منسا موسى بنى مسجدا ومحرابا خارج مدينة غاو، يقول: (( ودخل أهل سنغاي في طاعته بعد جوازه إلى الحجّ. وبطريقها رجع فابتنى مسجدا ومحرابا خارج مدينة غاو صلَّى فيها الجمعة. وهي هنالك إلى الآن، وذلك عادتُه في كلِّ موضع أخذته الجمعة فيه))(69).
           والموقع المُكْتَشَف لا يقع خارج إطار مدينة غاو القديمة فهو قريب جدًّا من الحارَّة الثانية ( ATIBAY) التي تُعدُّ أصل المدينة، وحيث يوجد مسجد أسكيا الحاج محمَّد. وقد اكتُشف مع المسجد مَرابطُ للجيش، وقصرٌ كبير لم يرد ذكرُه في حديث السعدي أو غيره، كما ورد في حديثه عن تنبكتُو أنَّ منسا موسى بنى فيها (( دارَ السلطنة، فسمِّيَتْ مَع [مَغَا] دُغُ، معناه في كلامهم دار السلطان)) ، سيأتي!!!.
3) قد صارت مدينة غاوُ عاصمة إمبراطوريّة سنغاي منذ مملكتها الثانية التي سقطت على يد جيش منسا موسى، وقد ثبت أنَّه أسلم من ملوكها أكثر من سبعة عشر ملكا(70) في حين انتشر الإسلام في الشعب منذ القرن الأوَّل الهجري. فكيف لمْ يوجَدْ في مدينة غاو مسجد جامع ولا قصرٌ مَلَكِيٌّ كبير إلاَّ في عهد سيطرة منسا موسى التي استغرقت عشر سنوات [ 1325-1335م] ومن عادة المسلمين الثابتة في كلّ زمان ومكان أن يَبنُوا المساجد الجوامع حيث استقرُّوا حتى لو كانوا وسط المجتمعات الكافرة الوثنيَّة وغيرها؟!.
4) ثمَّ إنَّ أوصاف القوَّة، والسعة، والسيطرة على الأمم المجاورة، وأنَّ [ سنغاي = كَوْكَوْ ] لا يُملِّكون على أنفسهم غير المسلم، التي وردت لهذه الإمبراطوريَّة في كثير من المصادر العربية القديمة كاليعقوبي، والمسعودي، والمهلَّبي، والبكري، هذه الأوصاف إنَّما تبدأ من المملكة الثانية للسنغاي التي سقطت عام 1325م. وليست من الثالثة – فحسب- التي أسّسها أسرةُ سُونِّي، وكان أبرز ملوكها سُونِّي علي بير(71).
5)  دليلٌ آخَرُ حَديثٌ وهو أنّ البناء الأساس - وفق الحفريات الحديثة التي سبقت الإشارة إليها- أقدَمُ من عهد منسا موسى؛ فقد تبيَّن من الحفريات أنَّ الأدوات المستعملة في البناء مختلفة، وكذلك الأسلوب. وأنَّ البناء الأساس تَمَّتْ الزيادةُ عليه مَرَّتين، الزيادة الثانية هي التي توافق عهد منسا موسى!!! أفَليس من الواضح أنَّه إنَّما قام بتجديد البناء أو إصلاحه.
لذلك كلِّه فالصواب ما ذهب إليه أولئك الباحثون الذين رماهم د.فاي بالتخليط، وأنَّ منسا موسى إنَّما قام إمَّا بتجديد بناء المسجد كلِّه أو بعضه ولم يقُمْ بابتداء بنائه.
 وتجديدُ بناء المساجد وتوسعتُها بسبب توسُّع المدن وزيادة سُكَّانها، والتعاون على البرّ، والرغبة في الثواب، وتوفُّر الإمكانات الماديَّة، أمرٌ مسلَّمٌ به عَقْلا ونَقْلا في التاريخ الإسلامي كلِّه. وقد شَهِد التاريخ والحضارة بالسودان الغربي في بعض عهود إمبراطوريّة سنغاي الإسلامية تنافُسًا شديداً بين القضاة والسلاطين في إقامة المساجد أو ترميمها وتجديد بنائها، كما في قصَّة أسكيا داود  (توفي في رجب عام 990هـ/1582م) والقاضي العاقب (توفي في رجب عام 991هـ/1583م)  حول تجديد بناء الجامع الكبير "جِنْغَرَيْ بير" في تُنبُكتو أواخر عام (976هـ/1568م)، وكلاهما رجل صالح، حافظٌ القرآن، مليحُ الصوت، وكذلك ابنه أسكيا الحاج محمد الأمين وهو رجل صالح، حافظٌ القرآن، مليحٌ، لِحْيانٌ، مهيب، ذو مروءة، الذي تجد له مثلَ تلك القصة مع القاضي العاقب ثمَّ مع القاضي عمر في تجديد بناء المسجد نفسه(72).
أمَّا القصر الذي لمَّا يُحفَرْ موقعُه إلى الآن فلا شكَّ في أنَّه هو القصر الملكيُّ لإمبراطور مملكة سنغاي منذ أيَّام سُونِّي علي بير، تَعرَّض بعد ذلك لتوسيعاتٍ وإضافات. عُرِف أيَّام الأساكي باسم ( البيت الأبيض، هُغُ كُرَيْ Hougou koray ، La maison blanche )، ويكون رئيسه المستشار الخاصَّ والخديم النصيح للملِك. ورئيسه الذي أخذ يبرز تأثيره في الحياة السياسيَّة والإداريّة أكثر، يُلقَّب - منذ أيَّام أسكيا الحاج محمّد- بـرئيس البيت الأبيض(هُغُ كُرَيْ كُيْ koy Hougou koray )، وقد ولَّى أسكيا الحاج محمّد عليه علي فُلَنْ، فاشتهر بـ: (هُغُ كُرَيْ كُيْ koy Hougou koray ) 73وكان له نفوذ قويٌّ على أسكيا محمد وفي المملكة، وبخاصَّة بعد أن أُصيب بالعمى، حتى إنَّ أسكيا موسى بن أسكيا محمَّد علَّل انقلابه على والده في حوار مع القاضي الفقيه محمود بن عمر(ت955هـ) بقوله: (( ما فعلتُ ذلك إلاَّ خوفًا على نفسي، وكم من سنين لا يعمل إلاّ بما أمر به علي فُلَن، خفتُ من أن يأمر عليَّ يوما بسوء؛ ولهذا خلعتُه))(74). وبعد تولِّي أسكيا موسى ثمَّ تغلُّبه – عام 936هـ/1529م- على بعض إخوته الذين عارضوه وهربوا، هرب علي فُلَن - أيضا- وذهب إلى كَنُو في شمال نيجيريا يريد الحجَّ لكن توفيَّ فيها(75).
 ثمَّ بقي المنصبُ والاسمُ وتأثيرُ رئيسه الذي قد يتولَّى –أيضا- قيادة بعض فِرَق الجيش للقتال، بقِيَتْ إلى أيّام أسكيا إسحاق الثاني بن أسكيا داود. وممَّن تولاَّه في عهد أسكيا داود: كَمِكَلْ،  ثمَّ ياسي ، وبقي فيه ياسي في عهد أسكيا محمد بان بن أسكيا داود(76).


صُوَرِ زيارة الموقع

هذه الصور من موقع الحفريات شمال مدينة غاو في حيّ الجَنَّبَنْجِيَا ، على يمين الساري في الطريق العامّ إلى بوريم.
أخِذت هذه الصور في شهر مارس 2009م، يظهر فيها:

    




























  (1) -
    الدكتور هارون المهدي ميغا (على اليمين) الباحث والأستاذ بجامعة الآداب والعلوم الإنسانية بماكو.
   عبد الله المهدي ميغا (على اليسار) رئيس إدارة الموظَّفين والموارد البشريّة في بنك B N D A  الإدارة المركزيّة، بماكو.

    



   









٢ـ  من آثار الحفريات













(٣ )- دكتور هارون وأخوه عبد الله















(4)- دكتور هارون وأخواه عبد الله والحسين














(٥  ) دكتور هارون وأخواه عبد الله والحسين وبعض العمال في الموقع عبد العزيز محمد ميغا، حارس الموقع ودليل السُّيَّاح وزُوَّار الموقع. شعيب سليمان (جَبِي) ميغا، البنَّاء مُرَمِّم الحفريات.
 والآن تأخذنا القراءة النقديَّة إلى ما يتعلَّق ببناء الجامع الكبير (جِنْغَرَيْ بير) في تُنْبُكتُ فنبدأه بالسؤال الآتي:    مَنْ بَنَى الجامع الكبير (جِنْغَرَيْ بِيرْ) في تُنْبُكتُ؟
    ممَّا شاع لدى كثير من المؤرِّخين قديما وحديثا ما يتناقلونه من أنَّ منسا موسى سلطان مملكة مالي هو الذي بنى مسجد الجامع الكبير(جِنْغَرَيْ بير)  في تنبكتو عام 724هـ 1324م. ويردِّدُه شخصيَّات كِبار وعلماء مُحدَثون من تنبكتو نفسها!! (77).
   ولعلَّ الصحيح أنَّ منسا موسى إنَّما جدَّد بناءه أو قام بإصلاحات وترميمات، وليس أنَّه أوَّل مَن بناه، والدليل على هذا أمور:
1) أنّ مدينة تنبكتو كانت عامرة منذ القرن الخامس الهجري/الحادي عشر الميلادي، ومنسا موسى إنَّما تولَّى سلطة مالي في مطلع القرن الثامن الهجري/الرابع عشر الميلادي، وقام بالتجديدات والإصلاحات المشار إليها عند عودته من الحجّ عام 724هـ 1324م. وللسعدي ثلاثة أقوال متناقضة فيما حول هذه القَضِيَّة، وهي:
القول الأوَّل: (( وقيل: إنَّ السلطان كنكن موسى هو الذي بنى صومعةَ الجامع الكبير التي بها))(78).  هذا نصٌّ –بصيغة التمريض- صريحٌ بأنَّه إنَّما بنى مئذنة الجامع الكبير(جِنْغَرَيْ بير). وقد ابتنى-أيضا- مقرًّا للسلطة، (( وطَرقَ تنبكتُ فملكها، وهو أوَّل ملوك ملكها، وجعل خليفته فيها، وابتنى فيها دار السلطنة فسُمِّيَتْ مَعْ [مَغَا] دُغُ، معناه في كلامهم دار السلطان))(79).
         القول الثاني: وهو ينقض النصّ السابق؛ إذ يفيد –صراحة- بأنَّه بنى المسجد ومئذنته معا، وقام القاضي العاقب بتجديد بنائه. يقول السعدي: (( أمَّا الجامع الكبير فالسلطان الحاج موسى صاحب مَلِّي هو الذي بناه وصومعته على خمسة صفوف، والقبور لاصقة به من خارجه في جهتي اليمين والمغرب، وتلك عادة السودان من أهل المغرب لا يدفنون أمواتهم إلاّ في رحاب مساجدهم وجوانبها من خارج. وذلك بعد ما رجع من الحجّ تَمَلَّك تنبكتو. فلمَّا جدَّد الفقيه العدل القاضي العاقب بن القاضي محمود بناءَهَا خرَّبها وسوَّاها - مع جميع القبور- بالأرض من كلّ جهة، صَيَّر الجميع مسجداً وزادها زيادة كبيرة))(80).
        وفي نصٍّ آخر يُحدِّد تواريخ الاستعدادات التي قام بها القاضي العاقب لتجديد البناء، وبدايته، وتسوية المقابر وضمِّها إلى المسجد، ويؤكِّد استعمال كَعْتِ والسعدي للبناء والمراد تجديد البناء(81).
        القول الثالث: أنَّ السُّكَّان الأوائل في مدينة تنبكتو هم الذين قاموا - قبل سيطرة منسا موسى عليها- ببناء المسجدين على الترتيب: الجامع الكبير(جِنْغَرَيْ بير) أوَّلا، ومسجد سُنْكُرَى ثانيا(82)؛ فقد تحدَّث السعدي عن السُّكَّان الأوائل في تنبكتو(83)، ووصف بدقَّة تطوُّرَ عمارة المدينة في ثلاثة أطوار منذ نشأتها، وبيَّن أنّ بناء المسجدين جاء تَبَعًا لذلك، وعَرَض للتجديدات والإصلاحات التي أُدْخِلتْ على المسجد الكبير(جِنْغَرَيْ بير) وقد استمرَّت إلى أواسط القرن العاشر الهجري، تشمل تجديد منسا موسى للجامع الكبير لا البناء له؛ يقول السعدي: (( ثمَّ انتقل الجميع إلى تنبكتو قليلا قليلا حتى استكملوا فيه وزيادة))، ثمَّ وصف العمارة فيها وأطوارها فقال: (( فأوَّل الحال كانت مساكن الناس فيها زريبات الأشواك وبيوت الأخشاش، ثمَّ تحوَّلوا عن الزُّريبات إلى الصَّناصين، ثمَّ تحوَّلوا عنها إلى بناء الحيوط أسوارًا قِصارًا جدًّا بحيث مَن وقف في خارجها يرى ما في داخلها. ثمَّ بَنَوْا مسجد الجامع على حسب الإمكان ثمَّ مسجد سُنكُري كذلك، ومَنْ وقف في بابه يومئذ يَرَى مَنْ يدخل في مسجد الجامع؛ لأجل تخلية البلد من الحيطان والبنيان. وما ثبتتْ عِمارتُه إلاّ في أواخر القرن التاسع [الهجري]، وما تكاملَ البناء في الالتئام إلاَّ في أواسط القرن العاشر[الهجري] في مدَّة أسكيا داود بن الأمير أسكيا الحاج محمد. فأوَّل مَنْ ابتدأ فيها المُلْكَ أهل مَلِّي، ودولتُهم فيها مئة عام، وتاريخُه من عام سبعة وثلاثين في القرن الثامن [737هـ] ))(84).
           
            أيُّ الأقوال الثلاثة هو الصحيح: بناء منسا موسى مئذنةَ المسجد، أو بِناؤُه المسجدَ ومئذنته؟ أو بناءُ السُّكَّان الأوائل في المدينة للمسجد؟
            الصواب والراجح هو أنَّه إنَّما جدَّد بناء المسجد ومئذنته؛ فالقول الثالث يزيل الاضطراب والتناقض بين القولين السابقين؛ لأنَّه صريح بأنَّ السكَّان الأوائل في مدينة تنبكتو - قبل سيطرة منسا موسى عليها- هم الذين بَنَوْا المسجدين على الترتيب: الجامع الكبير(جِنْغَرَيْ بير) أوَّلا، ومسجد سُنكُرَى ثانيا.
           وهو الذي يتوافق ويتناغَم مع المعهود من تاريخ المسلمين في كلِّ زمان ومكان؛ حيث يبدأون ببناء المسجد الجامع في كلِّ مكان ينزلون فيه؛ تسهيلا لأداء الصلاة جماعـة، ولأداء صلاة الجمعة التي لا يُتصوَّر تعدُّد أماكن أدائها في بدايات تكوين مُدُنِهم، وفي ظلِّ أقوال المتقدِّمين من علماء المذهب المالكيَّ الذين لا يَروْن تعدُّد مساجد الجمعة في مدينة؛ وتحقيقا لدور المسجد -قديما- كمجلس للشورى، والقضاء، والتعليم...إلخ.  ولأنَّ تجديدَ بناء المساجد وتوسعتَها؛ بسبب توسُّع المدن وزيادة سُكَّانها، والرغبةِ في الثواب، وتوفُّرِ الإمكانات الماديَّة، أمرٌ مسلَّمٌ به عَقْلا ونَقْلا في التاريخ الإسلامي كلِّه. وقد تقدَّم أنَّ التاريخ والحضارة بالسودان الغربي في بعض العهود قد شَهِد تنافُسًا شديداً بين القضاة والسلاطين في إقامة المساجد أو ترميمها وإعادة بنائها(85).
2) ومن الأدلَّة: أنَّه يُستَبعَد أن تظلَّ مدينة إسلامية لم يُعبَد فيها وثن، ولا سُجِد فيها لغير الرحمن_ كما يقول السعدي- بدون مسجد جامع طوال أكثر من قرنين، وهو المدَّة التي بين نشأة تنبكتو وبين استيلاء سلطان مالي عليها(86)؛ فكيف وقد كان المعهود في التاريخ الإسلامي كلِّه – كما تقدَّم- هو بناء المساجد العامَّة (الجوامع) حيث حلَّ المسلمون، حتى قال أحمد بابا: إنَّه كان في كومبي ساري (كومبي صالح) عاصمة مملكة غانا اثنا عشر مسجدا مع حلول عام ستين (60هـ).
3)  أنَّ (جِنْغَرَيْ بير) أسبق من جامع سُنكُرَى؛ (( ثمَّ بَنَوْا مسجد الجامع على حسب الإمكان ثمَّ مسجد سنكوري كذلك))(87).
4) من المحتمل – كما يقول المؤرِّخ المالي سيكني مودي سيسكو- وجودُ مسجد آخر في الموقع نفسه منذ القرن الثالث عشر الميلادي؛ فيكون عملُ منسا موسى فيه هو إدخال تجديدات على البناء، أو توسيع مسجد قديم(88)، كما قام بتجديد مئذنة جامع سنكوري. يؤيِّد ذلك أنَّ القاضي العاقب بن القاضي محمود (ت 991هـ/1583م) هدمه وسوَّى القبور بالأرض، وبنى مكانه مسجداً أكثر اتساعا(89) لكن بقي الاسم الأوَّل (جِنْغَرَيْ بير).

ليس صحيحا –إذن- أنَّ منسا موسى أوَّل منْ بنى(جِنْغَرَيْ بير)(90). وإنَّما قام بتجديد بنائه هو ومئذنته.

        الخاتمة:
          تلك –إذن- قراءة نقديَّة لمفاهيم تاريخيَّة ولقضايا حضاريَّة بغرب أفريقيا، تَبيَّن فيها بالدليل:          
أنَّ جلال الدين السيوطي لم يزُرْ السودان الغربي وإن كان على علاقة وثيقة بها عن طريق المراسلات العلميَّة، والالتقاء في مصر بسلاطين السودان الغربي وعلمائه وحُجَّاجه.
 وأنَّ سُونِّي علي بير( SONNY ALI BER) بريء من الأوصاف السيِّئة التي وصفه بها كثير من المؤرِّخين؛ بسبب موقفه الشديد من سلطانٍ وفقهاءَ أرادوا تكوين دولة داخل دولته، وقد كان يحسن إلى آخرين، ويردِّد عبارةً تشيد بفضل العلماء وبتأثيرهم المهمّ في الحياة (( لولا العلماءُ لا تَحلُو الدنيا ولا تَطيب )).
 وأخيرا أنَّ منسا موسى إنَّما قام بتجديد بناء مسجد في غاو، وبتجديد بناء مسجد جِنْغَرَيْ بير في تُنبكتُو، وليس هو الذي بناهُما. كما بنى قَصْرا مَلَكِيًّا في تنبكتو دون غاو.

                       اللهمَّ أَرِنا الحقَّ حقًّا وارْزُقْنا اتِّباعَه وأَرِنا الباطل باطلا وارْزُقْنا اجتنابَه.

المصادر والمراجع       
1) أسئلة الأسقيا وأجوبة المغيلي عليها، محمد بن عبد الكريم المغيلي،  تقديم وتحقيق الأستاذ عبد القادر زباديه/6،9، الشركة الوطنية للنشر والتوزيع، الجزائر، عام 1974م .
2) الإسلام في نيجيريا والشيخ عثمان بن فوديو الفلاني، آدم عبد الله الآلوري، ط3، عام 1398هـ 1978م.
3) الإسلام والمجتمع السوداني إمبراطوريّة مالي، أحمد الشكري، ط1 عام 1420هـ 1999م، المجمع الثقافي، أبو ظبي، الإمارات العربية المتحدة.
4)  إسهام الأفارقة في الثقافة العربيّة الإسلاميّة، غرب أفريقيا نموذجا، علي يعقوب، التواصل مجلّة فصلية ثقافية، تصدرها جمعيّة الدعوة الإسلاميّة العالميّة، ليبيا، عدد9، سنة3 مارس 2006م.
5) الإمام السيوطي وفنّ السيرة الذاتية، عبد الله نبهان ، مجلة معهد المخطوطات العربية ، القاهرة ، سنة 34 ، 1-2 عام 1990م.
6)  إمداد الصحوة الإسلامية بخلاصة تاريخيّة محرَّرة عن إمبراطورية سنغاي الإسلامية، د.جبريل المهدي ميغا (غير منشور).
7)  إمبراطوريَّة سنغاي، دراسة تحليليّة في الترتيب التاريخي للإمبراطوريات الإسلامية بغرب إفريقيا، د.هارون المهدي ميغا، مجلّة دراسات إفريقيّة، مركز البحوث والدراسات الإفريقية، جامعة إفريقيا العالميَّة، العدد 37، سنة 23، يونيو 2007م جمادى الأولى 1428هـ.
8)  التاريخ الإسلامي في غربي إفريقيا، مآرب ج4، د.مهدي رزق الله، مؤسسة آل البيت، الأردن.
9) تاريخ السودان ، عبد الرحمن السعدي، نشر السيد هوداس، عام 1964م، باريس، مطبعة Librairie D, Amerique et d,Orient Adrien maisneuve .
10) تاريخ الفتاش في أخبار البلدان والجيوش، محمود كعت، هوداس ودلافوس، عام 1964م، باريس، مطبعة Librairie D, Amerique et d,Orient Adrien maisneuve .
11) تنبيه المادح المقلِّ ،د على ما كان سلف تنبكتو في المولد، محمود بن محمد ددب الملقَّب بـ: حمُّو الأرواني التنبكتي(غير منشور).
12) الثقافة العربية الإسلامية وأثرها في مجتمع السودان الغربي خلال القرنين العاشر والحادي عشر للهجرة، السادس عشر والسابع عشر الميلادي، دراسة للتواصل الحضاري العربي الأفريقي، د.مطير سعد غيث أحمد، دار المدّ الإسلامي، بيروت، ط1 عام 2005م
13) تمبكتو ومملكة سنغاي، سيكني مودي سيسكو
14) الحاوي للفتاوى، عبد الرحمن السيوطي، دار الكتب العلمية، بيروت، عام 1408هـ 1988م.
15) الحركة العلمية والثقافية والإصلاحية في السودان الغربي، د.أبو بكر إسماعيل ميغا، ط1 عام 1417هـ 1997م، مكتبة التوبة، الرياض.
16) العلاقات الاقتصادية والثقافية بين مملكة سنغاي وليبيا فيما بين القرون 8-10هـ، 14-16م، رسالة ماجستير، إعداد عبد الله موسى برزي، كلية الدعوة الإسلاميّة، طرابلس، ليبيا، قسم الدراسات العليا، شعبة اللغة العربيّة وآدابها، عام 2000م.
17) كتاب التحدث بنعمة الله، الإمام جلال الدين السيوطي، المطبعة العربية الحديثة، القاهرة، عام 1972م.
18)  مؤثرات الحضارة الإسلامية في السودان الغربي منذ القرن الخامس إلى القرن العاشر الهجري، صالح أبو دياك، دراسات (العلوم الإنسانية والاجتماعية) الجامعة الأردنية مجلد 23 عدد 2 آب 1996م ربيع الأوَّل 1417هـ
19) الملامح الحضاريّة للسودان الغربي في القرنين الرابع عشر والخامشر الميلاديين د.فاي منصور، حوليلت الجامعة الإسلامية بالنيجر، العدد 3، عام 1418هـ 1997م.
20) المدّ الإسلامي على أفريقيا، محمد جلال عباس، المختار الإسلامي، القاهرة، ط1 عام 1398هـ 1978م.
21) نيل الابتهاج بتطريز الديباج، أحمد بابا التنبكتي، تحقيق د.علي عمر، مكتبة الثقافة الدينية، القاهرة، ط1 عام 1423هـ 2004م.

التسميات:
نبذة عن الكاتب

اكتب وصف المشرف هنا ..

اشتراك

الحصول على كل المشاركات لدينا مباشرة في صندوق البريد الإلكتروني

شارك الموضوع

مواضيع ذات صلة

0 التعليقات:

ترجمة

كتابا

المدونات

back to top