بسم
الله الرحمن الرحيم
الحمد لله وحده، وصلى الله وسلَّم على مَن
لا نبيَّ بعده وعلى آله وصحابته ومَن تبعهم بإحسان إلى يوم الدِّين.
وبعد:
فأشكر
للذين دعَوْنِي للمشاركة في هذه الدَّورة العلميَّة بتقديم ورقة، وأخصُّ بالشكر
الأخ الدكتور عبد العزيز محمد ميغا، كما أشكر لرابطة العالم الإسلامي ولمكتب هيئة
الإغاثة الإسلاميَّة العالميَّة في مالي الاهتمامَ بالشأن المالي والمشاركة في
البحث عن حلول واقعيَّة معقولة لِما مَرَّ به من أحداث جسيمة أدَّت إلى إحداث شرخٍ
عميق في المجتمع الإسلاميّ في مالي يحتاج رَدمُه إلى جهود مخلصة من القيادات
الدينيَّة الإسلاميَّة في الداخل والخارج، أمَّا في الداخل فقد قامت هذه القيادات –ولا
تزال تقوم- بجهود جبَّارة أساسها الوحدة الدينيَّة، وترسيخ المحافظة على الانصهار
الاجتماعيّ بين قبائلها لقرون مديدة منذ أيَّام الإمبراطوريات والدول الإسلاميَّة
التي عرفتها منطقة غرب أفريقيا، حيث ورث عنها جمهوريَّة مالي أهمَّ مراكزها
الحضاريَّة والعلميَّة، وأبرز الشعوب التي شاركت فيها السنغاي، والسوننكي،
والماندنغ، والفلاتة، والعرب، والطوارق، وغيرهم.
وعبر
كلِّ تلك القرون وُجِدَتْ قياداتٌ دينيَّة إسلاميَّة خارجيَّة مُخلصة في النصيحة
لله ولعامَّة المسلمين وخاصَّتهم، بعيدة عن اتِّباع الهوى والعصبيَّة، كان لها أثرٌ
كبير في ترسيخ الأخوَّة الدينيَّة والإنسانيَّة، وتحقيق الوئام الوطنيِّ، وتعزيز
السلم، والاستقرار الاجتماعيِّ، في المنطقة.
أمَّا
في العصر الحديث فقد وجدنا لِقلَّةٍ من تلك القيادات الدينيَّة الإسلاميَّة
الخارجيَّة أثرا إيجابيًّا في أحداث مالي، وفي المقابل كان دورُ الكثيرين منهم– في
الآونة الأخيرة- سيِّئا وسلبيًّا، أساسها اتِّباع الهوى أو التعصُّب العنصريُّ، والبِناءُ
على معلوماتٍ ناقصة أو مشوَّهةٍ مستقاةٍ من مصادر كاذبة ومغرِّضة، والحكمُ على
الشيء قبل تصوُّره، وبخاصَّة في الأحداث التي وقعت في شمال مالي بسيطرة الحركات
الجهاديَّة والانفصاليَّة عليه ثمَّ قيام الجيش المالي ومعه قوَّات من فرنسا وتشاد
ومجموعة دول غرب أفريقيا بقتال تلك الحركات.
وللسيوطي رسالة مهمة مؤرَّخة بحوالي عام
898هـ 1493م للعلماء والسلاطين في غرب أفريقيا: أرسلها إليه الشيخ
شمس الدين محمد بن محمد بن علي اللمتوني،
سمّاها " مطلب الجواب بفصل الخطاب". وقد ردّ عليها السيوطي
برسالة سمّاها "فتح المطلب المبرور وبرد الكبد المحرور في الجواب
عن الأسئلة الواردة من التكرور" ().
وفي هذه الرسالة مسائلُ فقهيَّة، وعقديَّة،
وثقافيَّة وتعليميَّة، وأخرى تتعلق بالعادات الاجتماعيَّة والاقتصاديَّة، وبإدارة
شؤون الناس، في بعض مجتمعات السودان الغربي، وداخل الصحراء، وفي حوض نهر
السنغال ( بين مالي وموريتانيا والسنغال).
لكنّ وجود تلك القضايا لدى أولئك أو
هؤلاء لا يمكن أن يمثل ظواهر عامّة؛ لأنّ أغلبها معاصٍ تنتشر في أيِّ مجتمع مسلم إذا
وجدت الدواعي، كبعض ممارسات الحكم وسيطرة ذوي الأهواء، وضعف الوازع والنازع
الديني، وغياب التوعية السليمة أو قِلَّتُها، والسعي في تصحيح أوضاعٍ وعاداتٍ وتقاليدَ
موروثة، وتصحيح مفاهيم إسلاميَّة، وبخاصة في الأرياف ونحوها.
من الأدلَّة على أنَّها لم تكن تمثِّل ظواهر
عامَّة:
أ- أنّ
عصر اللمتوني وما قبله يمثل في الكثير من أجزاء أفريقيا الغربية الأخرى (وبخاصَّة
أغلب الأجزاء التي ورثتها جمهوريَّة مالي الحديثة) جزءا مهما من عصور الازدهار
الحضاريّ، والعلميّ والثقافي، والإصلاح الديني، والتوعية الإسلامية؛ بجهود منسا
موسى–بعد عودته من أداء الحجّ عام (725هـ1323-1324م)- ومَنْ بعده من ملوك مالي
وسنغاي حتى تاريخ هذه الرسالة، ثمَّ بجهود علماء أجلاَّء كانوا لا يخافون في الله
لومة لائم.
ب- أغلب
ما ورد في الرسالة لم يكن لِيَخْفَى على طلبة العلم المبتدئين في تلك العصور في
ظلِّ وجود علماء أجلاَّء، ومراكز علميَّة وثقافيَّة وحضاريَّة مرموقة في غاو،
وتنبكتو، وجَنِّي، وغيرها().
فالأمر من باب زيادة التوكيد والاطمئنان والتثبُّت وحشد أكبر قدر من جهود العلماء
وأقوالهم في السعي لتحقيق التغييرات المطلوبة، كما تقدَّم في أسئلة أسكيا محمد
للسيوطي.
ج-
أنَّ كثيرا من أولئك
الملوك هم ممَّن جمع العلم والسلطان، ومَنْ لم يكن عالما اتَّخذ من العلماء والفقهاء
البارزين مستشارا أو وزيرا يدير له شؤون الدولة والمجتمع على وفق الشريعة، ولا بدَّّ
من هيئة شوريَّة على شكل لجنة الفتوى من كبار العلماء والفقهاء().
وكان السلاطين يحترمون هؤلاء العلماء والفقهاء، ويزورونهم في بيوتهم، ويستفتونهم،
ويُشاوِرونهم في شؤون الدولة وما تتعرض له من أخطار ويأتمرون بأمرهم()،
لم يتخلَّف عن هذه الأمور سلطان أو ملك في السودان الغربي.
شَمِلتْ إجابات السيوطي مسائل متنوَّعة:
v
فقهيَّة وعقديَّة.
v
ثقافيَّة وتعليميَّة.
v
اجتماعيَّة واقتصاديَّة.
v
وأخرى تتعلق بالسياسة
الشرعيَّة في إدارة شؤون الدولة
().
ولا شكّ في أنّ إجاباتِه وتناولَها لهذه
القضايا الشاملة قد شاركت بقوَّة في تحقيق الأمن والاستقرار في المجتمع الإسلامي وقتئذ
(ومنه شعوب وأجزاء كبيرة في جمهوريَّة مالي الحاليَّة)؛ حيث وجدت صَدًى طيِّبا
تعليميا وثقافيا، واجتماعيًّا، وسياسيا، وإصلاحيا لدى السائل نفسه، ولدى السلاطين
والملوك، والعلماء والمثقَّفين، وفي المجتمعات التي نشرت فيها.
يؤكِّد
حصول هذا الصدى أنّ السيوطي كان على معرفة واسعة بالمنطقة ومجتمعاتها،
وقضاياها الدينيَّة والاجتماعيَّة، والسياسيَّة، وغيرها. وكان أحدَ أهمِّ أركان
التواصل الثقافي والتعاون العلمي بين مصر والسودان الغربي. ومعلوم أنّ أساس شهرته
في السودان الغربي وذيوع مؤلفاته فيه، هو علاقاته الواسعة بعلمائه وملوكه وطلابه،
والالتقاء بالكثير منهم في رحلاتهم لأداء الحجّ أو لطلب العلم، وكانوا يحضرون
دروسه، ويقرأون عليه كتبه().
ويذكر بعض المصادر التاريخيَّة أنَّ أحد أبنائه كان مؤذِّنا بالجامع الكبير"
جِنْغَرَيْ بِير" في تنبُكتو.
إنَّ الدقَّة، والموضوعيَّة، والبحث العلميِّ
الذي لا يعرف المجاملات والهوى، تفرضُ علينا سؤالا مهمٍّا جدًّا وهو: ألم توجد
قيادات دينيَّة إسلاميَّة خارجيَّة كان لهم مواقف سلبيَّة تركت آثارًا سيِّئة على
الأمن والاستقرار والوحدة الوطنية والتعايش السلمي في مالي؟.
-
انظر: الحاوي للفتاوى ج1/ 291-294. وقد ناقشنا هذه الرسالة وما يتعلَّق بها
بالتفصيل في بحوث أخرى كالمراسلات العلميَّة وأثرها التعليمي والثقافي والإصلاحي
بغرب أفريقيا، التي ستنشر في كتاب، إن شاء اله.
0 التعليقات:
إرسال تعليق